الاثنين، 3 نوفمبر 2014

من جهود الدعوة السلفية المباركة فى التصدى للأفكار الكفرية والمنحرفة عن منهج أهل السنة والجماعة ( عقيدة أهل السنة والجماعة )

من جهود الدعوة السلفية المباركة فى التصدى للأفكار الكفرية والمنحرفة عن منهج أهل السنة والجماعة ( عقيدة أهل السنة والجماعة )




نبدأ إن شاء الله باختصار سلسلة قضايا الإيمان والكفر لفضيلة 
الشيخ الدكتور محمد بن إسماعيل المقدم على أوقات مختلفة مع 
التنبيه على أن الموضوع يتصل بعضه ببعض كما نوصي بعدم 
التفريط في سماع السلسلة كاملة لفضيلته حتى تعم الفائدة.

ونسأل الله أن ينفعنا وإياكم بها.



قاعدة في الحكم على المعين:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ:

"فعلم بخبره الصدق أنه لا بد أن يكون في أمته قوم متمسكين بهديه، الذي هو دين الإسلام محضا، وقوم منحرفين إلى شعبة من شعب اليهود، أو إلى شعبة من شعب النصارى، وإن كان الرجل لا يكفر بهذا الانحراف، بل وقد لا يفسق أيضا، بل قد يكون الانحراف كفرا، وقد يكون فسقا، وقد يكون معصية وقد يكون خطأ.
قال الشيخ ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ تعليقا على كلام شيخ الإسلام: 
"ثم بين المؤلف أن هذه الأمة لا يمكن أن تكون كلها مشابهة لليهود والنصارى، بل لا بد أن يكون منها أمة طائفة منصورة قائمة بأمر الله إلى يوم القيامة.
وكذلك بين رحمه الله أن الناس ينحرفون وأن هذا الانحراف أربعة أقسام: كفر وفسق ومعصية وخطأ.
- فإن كان الانحراف يؤدي إلى الردة صار كفرا.
- وإن كان يؤدي إلى خرم المروءة والدين وليس بكفر، فهو فسق.
- وإن كان دون ذلك فهو معصية.
- وإن كان ناتجا عن تأويل له مساغ في اللغة فهو خطأ.
ويصح أن يوصف الخطأ بالانحراف لكن لا يصح أن يوصف قائله بأنه منحرف إذا علمنا أنه صادر عن اجتهاد، وهذا هو بيت القصيد فيما يرى في كلام بعض الأئمة الذين تشهد لهم الأمة بالنصح لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين من انحراف؛ فإن هذا انحراف صادر عن خطأ، ونصف هذا بأنه انحراف وأنه ضلال لكن لا نصف المنحرف بأنه منحرف، لماذا؟
لأنه وقع عن خطأ، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من اجتهد من هذه الأمة فأخطأ فله أجر، والذي له أجر لا يمكن أن يقال له منحرف، لكن من علم منه سوء القصد والمعاندة حينئذ إذا قال قولا منحرفا قلنا: إنه منحرف وعليه فيجب أن تعرف الفرق بين القائل والمقولة والفاعل والفعل.
انظر (اقتضاء الصراط المستقيم)ص 25،26 ط دار ابن الجوزي.

======================================


نبدأ إن شاء الله باختصار سلسلة قضايا الإيمان والكفر لفضيلة الشيخ الدكتور محمد بن إسماعيل المقدم على أوقات مختلفة مع التنبيه على أن الموضوع يتصل بعضه ببعض كما نوصي بعدم التفريط في سماع السلسلة كاملة لفضيلته حتى تعم الفائدة.
ونسأل الله أن ينفعنا وإياكم بها
============================


نبذة عن شيخنا فضيلة الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم حفظه الله تعالى :-
هو محمد بن أحمد بن إسماعيل بن مصطفي بن المُقدَم، يكنى "أبا الفرج".. ولد بالأسكندرية في غرة ذى القعدة سنة 1371 هـ الموافق 26 يوليو 1952 م. نشأ لأول مرة في جماعة أنصار السنة المحمدية، وعمل بالدعوة السلفية لأول مرة سنة 1972 م، ثم كان تأسيس المدرسة السلفية بالإسكندرية سنة 1977 م إذ ضم لها بعد ذلك كثيرا من علماء الدعوة آنذاك.
الدعوة وطلب العلم :-
كان لنشأته لأول مرة وسط جماعة دعوية مثل أنصار السنة المحمدية دورا في تعلقه بالدعوة منذ الحداثة. وقد كانت الدعوة السلفية في هذا الواقت ما تزال في بداياتها، وقد كان للدكتور المقدم الصدارة في قيادة العلم الدعوي في الثغر السكندري.
درس الطب في جامعة الإسكندرية في أوائل السبعينات، وهناك التقى الشيخ أحمد فريد لأول مرة، وفي أثناء دراستهما في الجامعة كونا مع زملائهما فريقا للدعوة إلى منهج أهل السنة والجماعة وكان الشيخ المقدم هو الذي يصنف الرسائل التي تنشر بين شباب الجامعة. وكان الشيخ أحمد فريد صنوه يعنى بتأليف كتب الرقائق... وكانت هذه الكتب تطبع وتوزع على شباب الجامعة.
وكان مقر الدعوة في الخارج هو (مسجد عباد الرحمن).. وقد تم تحريض إمام المسجد على التخلص من هؤلاء الشباب من المسجد تماما بححة أنهم جهلاء لكنه لم يفعل،
وبمرور الوقت تكونت نواة "للدعوة" في الإسكندرية إبان تخرج هؤلاء الشباب، حيث عمل الشيخ محمد إسماعيل على نشر "الدعوة السلفية" في كل أنحاء مصر، وبخاصة في القاهرة العاصمة، فكان ينتقل إليها كل أسبوع لإلقاء درس في منطقة الطالبية حيث وجد أول تجمع سلفي واضح المعالم في القاهرة إبان فترة أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات... وكانت جهود الشيخ محمد إسماعيل مركزة على الدروس ذات البعد الحضاري والاجتماعي، مع اهتمامه بقضية المنهج السلفى وأساسياته.. ثم إنه طاف محاضرا ً في الكثير من محافظات مصر والعديد من البلاد العربية، والأوروبية، والولايات المتحدة الأمريكية.
سمات أسلوبه :-
اشتهر الشيخ محمد إسماعيل بتناوله لكل قضايا العصر، فما من قضية تشغل الرأي العام إلا ويفرد لها محاضرة يتناول فيها القضية من الناحية الإخبارية تحليلا وشرحا، ثم يتعرض لحكم الشرع في القضية وعلاقة الصحوة بهذه القضية، حتى تجاوزت شرائط دروسه التي تتناول كل قضايا العصر الألف شريط.
واتسم أسلوبه بالواقعية،[بحاجة لمصدر] وفى كلامه دوما دعوة إلى الشباب إلى علو الهمة والعمل وعدم الاتكال على الأماني وإن بدت لهم ثوابت. تجد ذلك في: كتاب (علو الهمة)، وسلسلة دروس (مهدينا ليس منتظرا ) وفيها يناقش السلبية التي طبعت الأمة بسبب الاعتقاد المظلم بأنه لا صلاح إلا على يد المهدى! اتسم كذلك كلامه بالعقلانية، والتأكيد الدائم على أنه لا تعارض بين عقل ونقل صحيحين أبدا..
ركز الشيخ على بيان ماوصفه ب"ضلالات الشبهات الفكرية المعاصرة"، وأكد على ضرورة التمسك بالهوية الإسلامية، وذلك من منظور سلفي. وألف من أجل ذلك: (الهوية الإسلامية) و(بدعة تقسيم الدين إلى قشر ولباب) و(المهدى) و(خدعة هرمجدون)، ومن دروسه المسموعة في ذلك المجال: (طاغوت العلمانية) و(ثورة الغزالى على السنة). اهتم الشيخ المقدم بقضية المرأة، وموقفها مما يوصف "بحملات التغريب والسفور".. ولأجل ذلك صنف الكثير من المؤلفات وألقى الدروس التي تناقش قضايا المرأة المسلمة مثل كتاب عودة الحجاب بأجزائه الثلاثة، وسلسة دروس (تحرير المرأة من البذر إلى الحصاد). كمااهتم بقضايا الشباب، وحدثهم بما يفهمون.
الشهادات التي نالها :-
بكالوريوس الطب – كلية الطب- جامعة الإسكندرية.
دبلوم الصحة النفسية – المعهد العالي للصحة العامة ((جامعة الإسكندرية)).
ليسانس الشريعة الإسلامية – كلية الشريعة – جامعة الأزهر.
حاليا: دراسات عليا في الأمراض العصبية والنفسية.
عضو الجمعية العالمية الإسلامية للصحة النفسية.
حفظ الله الشيخ و أطال عمره و متعه بالصحة و العافية
======================================

قضايا الإيمان والكفر

أهل السنة وسط بين فرق أهل الإسلام كما أن الإسلام وسط 
بين غيره من الملل، ولما كانوا وسطاً وفقهم الله لاختيار القول
 الوسط الجامع لأدلة الدين الوسط، فلا يغلوا ويتجاوزوا، ولاهم 
فرطوا وضيعوا، وهم وسط أيضاً في قضايا الكفر والإيمان بين 
طرفي نقيض.

المقدم
====================================

 الملة المحمدية، وقضية ضوابط الكفر والإيمان من القضايا التي إن لم يجتهد فيها الإنسان، ويعمل على الإحاطة بالنصوص الواردة في المسألة؛ فربما أخذ أحد طرفي النقيض، وانحرف في فهم هذه النصوص، ونزلها على غير منازلها.
فمثلاً يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من تعلم الرمي ثم تركه فهي نعمة كفرها)، فهذا أطلق عليه الكفر؛ لكنه ليس بالكفر الذي يخرج من الملة، وإنما هو كفر النعمة. ويقول صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً فيما رواه الشيخان: (لا ترغبوا عن آبائكم، فإنه كفر بكم) . وقال أيضاً صلى الله عليه وآله وسلم فيمن أنكر نسبه: (تبرؤه من نسب وإن دق كفر بعد إيمان) أي: تبرؤ الرجل من الانتساب إلى والده، أو إنكاره ولده (وإن دق كفر بعد إيمان). وقال صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر) . وقال: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، فوصفهم بالكفر لوقوع التقاتل بينهم. لكن عندنا أدلة أخرى إذا ضممناها إلى هذه الأدلة نفهم أن وقوع القتال بين المسلمين يسمى كفراً كما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن هل هذا الكفر أكبر مخرج من الملة؟
الجواب: لا، ومن الأدلة التي تؤيد أن وقوع القتال لا يعد كفراً أكبر مخرجاً من الملة وإن كان يسمى كفراً: قوله تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ [الحجرات:9]، فوصفهم أولاً بالإيمان، وأثبت لهم هذا الإيمان، ثم قال بعد ذلك: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات:10] . وكذا قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار)، وإن كان ليس فيه لفظ الكفر الذي نتكلم عنه. ورأى الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الحسن بن علي رضي الله عنهما وقال: (إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين طائفتين عظيمتين من المسلمين) ، فوصف الطائفتين المتقاتلتين والجيشين بأنهم من المسلمين رغم وقوع القتال بينهما. وقال عليه الصلاة والسلام: (تمرق مارقة على حين فرقة من أمتي تقتلها أولى الطائفتين بالحق). وقوله تبارك تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ [البقرة:178] إلى أن قال تبارك وتعالى: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ [البقرة:178]، فناداهم في صدر الآية بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)، ووصفهم وخاطبهم بالإيمان، ثم قال تبارك وتعالى: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ)، أي: إن عفى ولي الدم عن أخيه، فأثبت له أخوة الإيمان مع وجود الاقتتال بينهما.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (من أتى امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم) .
وقال أيضاً: (من حلف بغير الله فقد كفر)، هل كفر بمعنى: خرج من الملة وصار مثل اليهودي أو النصراني؟ كلا. كذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (اثنتان في أمتي هما بهم كفر: الطعن في الأنساب والنياحة على الميت) . وهذه الأحاديث لها نظائر كثيرة كالأحاديث التي نفت الإيمان عن الزاني والسارق وشارب الخمر. وقال صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً: (لا إيمان لمن لا أمانة له)، فالمقصود: لا إيمان كاملاً. ومعروف تفسير ترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما لقوله تبارك وتعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44]، قال ابن عباس : ليس بالكفر الذي يذهبون إليه. وقال طاوس: سئل ابن عباس عن هذه الآية فقال: هو به كفر، وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله، وقال أيضاً: كفر لا ينقل عن الملة. وقال سفيان عن ابن جريج عن عطاء: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق. وهذا فيمن رفع راية التوحيد، ورفع راية تحكيم الشريعة، ويكون ذلك في حال الخلافة الإسلامية، ثم إن قاض من القضاة حكم بغير ما أنزل الله، وهو يعلم أنه عاص بفعله ذلك، كأن يكون حكم برشوة أخذها، أو محسوبية لبعض أقاربه، أو مجاملة لبعض الناس، أو اتباعاً للهوى؛ فهذه معصية أو كفراً دون كفر، وليس بالكفر الذي يخرج من الملة، وهذا بخلاف من نبذ الدين خلف ظهره، ولم يرفع بذلك رأساً، كما سنبين إن شاء الله بالتفصيل فيما بعد. ومن المسائل التي وصف فاعلها بالكفر: ترك الصلاة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة؛ فمن ترك الصلاة فقد كفر)، وقوله: (بين المرء وبين الشرك والكفر ترك الصلاة)، إلى جملة أخرى من النصوص التي فيها وصف تارك الصلاة بالكفر. إذاً: ما هو الضابط؟ وما هو الميزان الذي نستطيع أن نعرف به أن الكفر أكبر أم هو كفر دون كفر؟ كذلك الظلم: هل الظلم أكبر يخرج من الملة أم هو ظلم دون ظلم لا يخرج فاعله من الملة وإن كان ينقص من الإيمان؟ فالكفر الأكبر يذهب بأصل الإيمان، والكفر الأصغر يذهب بكمال الإيمان، ينقص الإيمان لكن لا يطيح به بالكلية، كالشجرة إذا قطعت عنها بعض أغصانها أو فروعها تظل حقيقتها قائمة بخلاف ما إذا اجتثثتها من جذورها وأذهبتها بالكلية، فكيف نستطيع أن نضع ميزاناً دقيقاً لهذه الأشياء؟ ما ضابط الحكم على الفعل بأنه كفر دون كفر أو كفر أكبر، والظلم هل هو ظلم أكبر أو ظلم دون ظلم؟ فهناك بعض الناس لم يلتفت إلى هذه النصوص، فمن أجل ذلك جازفوا في الحكم على الناس بالكفر، وهو يعتمد على دليل شرعي لكنه يضعه في غير موضعه، فمثلاً يسمع أن من حلف بغير الله فقد أشرك فيحكم عليه بالشرك والكفر! لماذا تفعل هذا؟ يقول: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف بغير الله فقد أشرك)! وبذلك التقى مع الخوارج الوعيدية في تكفير المؤمنين الموحدين الذين ارتكبوا بعض هذه المخالفات.
================================

قضايا الإيمان والكفر(2)

ضابط الإيمان والكفر 1

فالكفر والإيمان متقابلان متضادان، إذا زال أحدهما خلفه الآخر، 
فإذا زال الإيمان عن الإنسان ثبت له وصف الكفر؛ إذ لابد لكل 
واحد من الناس من إحدى هاتين الصفتين: إما أنه كافر وإما أنه 
مؤمن.
....................................................................................
...
ولابد أن كل إنسان يكون في حالة من حالتين: إما أن يكون مؤمناً أو كافراً، أما المنزلة بين المنزلتين فهذا كلام خارج عن أصول وقواعد أهل السنة والجماعة. 
لكن الإيمان أصل وأساس، ثم يتفرع عن هذا الأصل شعب وفروع متعددة، وكل شعبة من شعب الإيمان يجوز أن يطلق عليها إيماناً، فمثلاً: الصلاة شعبة من شعب الإيمان؛ لذلك تسمى أحياناً: إيماناً، كما في قوله: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143] أي: صلاتكم إلى بيت المقدس؛ لأنهم سألوا عن ذلك بعد تحويل القبلة إلى مكة المكرمة، فقالوا: فكيف بالصلاة التي كنا نصلي من قبل مستقبلين بيت المقدس؟ وماذا عن المسلمين الذين ماتوا قبل أن تحول القبلة وقد صلوا إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله تبارك وتعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143] أي: ليحبط صلاتكم إلى بيت المقدس؛ لأنكم في الحالين مستسلمون لأمر الله عز وجل. فشعبة الإيمان تسمى إيماناً، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: من يا رسول الله؟! قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه)، والمقصود من الحديث: نفي الإيمان عمن أساء الجوار، لكن هل الإنسان الذي يسيء إلى جاره يعتبر كافراً كاليهودي أو النصراني؟
كلا، لماذا؟ لأن شعب الإيمان تسمى إيماناً، لكن الإيمان له أصل، وهذا الأصل إذا ذهب زال الإيمان بالكلية وحل محله الكفر.
أما شعب الإيمان فإذا زالت فهي تنقص الإيمان لكن لا تحبطه بالكلية. فالإيمان أصل له شعب متعددة، وكل شعبة من شعب الإيمان تسمى إيماناً، فالصلاة من الإيمان، والزكاة من الإيمان، والحج يسمى إيماناً، والصيام كذلك، وليس هذا في الأعمال الظاهرة فقط بل أيضاً في الأعمال القلبية الباطنة كالتوكل على الله عز وجل، والخشية من الله، والإنابة إليه .. كل هذه الأعمال الباطنة تسمى إيماناً، يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة؛ أعلاها: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من شعب الإيمان) .
إذاً: هذه هي القاعدة: شعب الإيمان تسمى إيماناً، لكن ليس معنى ذلك أن شعب الإيمان التي هي فروع الأصل هي كل الإيمان؛ بحيث إذا زالت زال كل الإيمان، لكنها تسمى إيماناً بوجودها، وازديادها يزيد الإيمان، وبذهاب بعضها ينقص الإيمان ما دام النقص في الشعب لا في الأصل نفسه. فشعب الإيمان عبارة عن مراتب أعلاها: لا إله إلا الله، ثم تأتي أفعال أخرى من الإيمان تصل إلى سبعين شعبة، فالصلاة شعبة من الإيمان، والزكاة، والحج، والصيام .. وهكذا، ثم تأتي الأعمال الباطنة: الحياء، والتوكل، والخوف، والرجاء إلى آخره، ثم تنتهي بآخر درجة من شعب الإيمان، وهي: إماطة الأذى عن الطريق؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق)، وقوله أيضاً في الحديث الآخر: (نحي الأذى عن طريق المسلمين)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم. كلما اقتربت الشعبة من الصلاة أو الشهادتين ازدادت خطورتها، بحيث إذا زالت من قلب المؤمن ومن سلوكه فإنها تهز إيمانه هزاً شديداً.
كذلك توجد شعب إيمان أخرى قد تقترب من شعبة إماطة الأذى عن الطريق، وكلما كانت أقرب لشعبة إماطة الأذى عن الطريق كان تخلفها أهون مما عداها.
========================================================
قضايا الإيمان والكفر (3)

ضابط الإيمان والكفر 2

يقول الحافظ ابن القيم رحمه الله تبارك وتعالى: الكفر والإيمان متقابلان، فإذا زال أحدهما خلفه الآخر، ولما كان الإيمان أصلاً له شعب متعددة، وكل شعبة منها تسمى إيماناً، فالصلاة من الإيمان، وكذلك الزكاة والحج والصيام، والأعمال الباطنة كالحياء والتوكل والخشية من الله والإنابة إليه حتى تنتهي هذه الشعب إلى إماطة الأذى عن الطريق، فإنه شعبة من شعب الإيمان، وهذه الشعب منها ما يزول الإيمان بزوالها، وإذا زالت زال الإيمان تماماً عن الإنسان وصار كافراً، مثل الشهادتين وكلمة التوحيد، رجل عنده حياء وكرم وصدق، وقل ما شئت من شعب الإيمان لكنه لم يشهد شهادة التوحيد، لم يقل: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله. فزوال شعبة التوحيد التي هي أصل الإيمان ينهي كل إيمانه ولا يعتد به.
ومنها ما لا يزول بزوالها كترك إماطة الأذى عن الطريق، فمن رأى قشرة موز أو زجاجة أو أي شيء يؤذي الناس في الطريق ولم يزله فهو مقصر، وينقص إيمانه بحسب ما يترك من هذه الشعب، لكن إذا أساء بترك إماطة هذا الأذى هل يصبح كافراً بمجرد ذلك؟ كلا، وبينهما شعب متفاوتة تفاوتاً عظيماً. إذاً: ما بين كلمة التوحيد وإماطة الأذى عن الطريق شعب تتفاوت تفاوتاً عظيماً، فمن هذه الشعب ما يلحق بشعبة الشهادة ويكون إليها أقرب، ومنها ما يلحق بشعبة إماطة الأذى ويكون إليها أقرب. كذلك الكفر له أصل وشعب، فكما أن شعب الإيمان إيمان فشعب الكفر كفر. فالحياء شعبة من شعب الإيمان، وقلة الحياء شعبة من شعب الكفر، فكل شعبة إذا كان وجودها من شعب الإيمان فزوالها يعد من شعب الكفر. الصدق شعبة من شعب الإيمان، والكذب شعبة من شعب الكفر، والصلاة والزكاة والحج والصيام من شعب الإيمان، وتركها من شعب الكفر. الحكم بما أنزل الله من شعب الإيمان، والحكم بغير ما أنزل الله من شعب الكفر.
والقاعدة: أن المعاصي كلها من شعب الكفر، كما أن الطاعات كلها من شعب الإيمان، هذا الأمر الثاني الذي نريد أن نستصحبه. خلاصة الكلام: أن المعاصي كلها من شعب الكفر، ويمكن أن تسمى أحياناً كفراً كما في النصوص التي ذكرناها، كما أن الطاعات كلها من شعب الإيمان. ......
مرتبط بـ
https://www.facebook.com/photo.php?fbid=284635191675454&set=a.284389618366678.1073741828.284339741704999&type=1&relevant_count=1
أعجبني
======================

قضايا الإيمان والكفر (4)
شعب الإيمان والكفر وأنواعهما 
شعب الإيمان قسمان: قولية وفعلية، وشعب الكفر أيضاً قولية وفعلية.
شعب الإيمان القولية والفعلية 
شعب الإيمان القولية منها شعبة يكون بزوالها زوال الإيمان، مثل كلمة التوحيد فهي شعبة من شعب الإيمان القولية.
كذلك شعب الكفر قولية وفعلية، فقد يأتي الإنسان بشعبة من شعب الكفر يكون بقولها زوال الإيمان بالكلية مثل سب الدين، وسب نبي من الأنبياء، والاستهزاء بالله تبارك وتعالى، فهذا إذا صدر من إنسان فهو يذهب كل الإيمان، فهو شعبة من شعب الكفر القولية كالنطق بكلمة الكفر مثلاً اختياراً، فهذا يحبط الإيمان فيصبح الإنسان كافراً خارجاً من الملة.
كذلك أيضاً يكفر بفعل شعبة من شعب الكفر الفعلية التي تحبط الإيمان تماماً مثل تمزيق المصحف، أو من يهين المصحف -والعياذ بالله- وهو يعلم بذلك، ومتعمد له، أو شخص سجد لصنم، فهذه شعبة من شعب الكفر الفعلية.
فشعب الإيمان منها قولية ومنها فعلية، وشعب الكفر منها شعب قولية ومنها فعلية، وكل هذه الأنواع في شعب الإيمان إذا زالت -القولية أو الفعلية- ممكن أن تزيل الإيمان بالكلية، كذلك هناك شعب من شعب الكفر إذا تعرض الإنسان لها فقد تزيل إيمانه بالكلية. هذا أصل.
=================================
قضايا الإيمان والكفر (5)
قول وعمل اللسان والقلب
الأصل الآخر هو: أن حقيقة الإيمان مركبة من قول وعمل،
................
القول: قول بالقلب وهو التصديق، وقول باللسان وهو التكلم بكلمة الإسلام.
أما العمل ..... فعمل بالقلب وعمل بالأركان أو بالجوارح. قول القلب: التصديق والاعتقاد. وعمل القلب: انقياد القلب لهذه الأوامر وهذه التكاليف، والمحبة والانقياد لحكم الله تبارك وتعالى، فإذا زالت هذه الأربع: قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح زال الإيمان كله، أما إذا زال من إنسان تصديق القلب لكن تكلم بكلمة الإسلام، وعمل بعمل الجوارح، وأتى بعمل القلب، فهل تنفعه باقي الأجزاء؟ لا. هذا هو المنافق.
وأما إذا زال عمل القلب مع اعتقاد الصدق، كمن يصدق بأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومؤمن بأن الأمر بالصلاة من عند الله، وأن القرآن من عند الله، وأن محمداً عليه الصلاة والسلام رسول الله حقاً، ولا ينطق عن الهوى، ولكنه لم ينقد لشريعته، ولا لأحكامه، فهذه المسألة من المعارك الكبرى بين أهل السنة وبين المرجئة.
فإن المرجئة يقولون: إن الإيمان هو مجرد المعرفة!
أما أهل السنة فهم مجمعون على زوال الإيمان إذا انتفى عمل القلب مع وجود التصديق، لماذا؟ لأن إبليس حينما أمره الله تبارك وتعالى بالسجود كان عنده تصديق بأن الأمر بالسجود من عند الله، وكان يعلم أن الذي يأمره بالسجود هو الله تبارك وتعالى، لكن عمل قلبه وانقياد قلبه لهذا الحكم لم يتواجد، وزال عمل القلب مع وجود التصديق، فلم ينفعه وصار إمام الكافرين. فرعون هل كان مصدقاً بموسى أم لم يكن مصدقاً بأن موسى رسول الله؟ نعم كان مصدقاً، والدليل: قوله تبارك وتعالى في سورة النمل في شأن فرعون وقومه: (وَجَحَدُوا بِهَا) أي: بالآيات "وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا" [النمل:14]، ....
و قال تبارك وتعالى: "قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33] ، ..... فمشركو قريش كانوا على يقين بأن محمداً رسول الله حقاً، فالتصديق الذي هو قول القلب بالاعتقاد كان موجوداً لكن لم يوجد عمل القلب بالانقياد لهذا الدين، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم نفي عنهم الإيمان.
كذلك أهل الكتاب كانوا كذلك، والدليل قوله تبارك وتعالى: "الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ " [البقرة:146]، وآيات أخرى كثيرة تدل على أن أهل الكتاب كانوا على يقين أن النبي صلى الله عليه وسلم صادق فيما يبلغه عن الله، لكن انتفى عمل القلب بالانقياد.
وجد عمل القلب بالتصديق أن هذا من عند الله، لكن لم يشفعوه بانقياد القلب ومحبة وامتثال ما أمر به صلى الله عليه وآله وسلم. أيضاً عمل القلب داخل في حقيقة الإيمان، وحقيقة التصديق يدخل فيها العمل، والدليل على ذلك: قوله تبارك وتعالى في حق إبراهيم عليه السلام: "فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ* وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ* قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ" [الصافات:103-105]، فمتى وصفه الله تبارك وتعالى بتصديق الرؤيا؟ إبراهيم عليه السلام لما استيقظ من نومه بعد أن أوحي إليه في المنام أن يذبح ابنه كان مصدقاً بذلك، ولو لم يكن مصدقاً لما أقدم على ذبح ولده؛ لأنه يعلم أن هذا وحي من الله تبارك وتعالى؛ لأن رؤيا الأنبياء وحي، ومع ذلك لما امتثل قلبه وجوارحه لهذا الأمر الإلهي الذي أريه في منامه حينئذ وصف بالتصديق: وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا [الصافات:104-105]، لما انضم إليه انقياد القلب والعمل.
خلاصة الكلام: أن حقيقة الإيمان مركبة من قول وعمل، القول: قول القلب: وهو اعتقاد الصدق. وقول باللسان: وهو النطق بكلمة التوحيد. ثم عمل: وهو عمل القلب بالنية والإخلاص والمحبة والانقياد، ثم عمل الجوارح، وإذا زالت هذه الأربع زال الإيمان كله بكماله، وإذا زال تصديق القلب زال الإيمان ولم تنفع بقية الأجزاء.
عقيدة أهل السنة إذا زال عمل القلب مع اعتقاد الصدق :
هذا هو موضع المعركة بين أهل السنة والمرجئة، حيث إن أهل السنة مجمعون على زوال الإيمان إذا انتفى عمل القلب مع وجود التصديق. وذكرنا أمثلة إبليس وفرعون واليهود والمشركين، هؤلاء جميعاً كانوا يعتقدون صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينفون عنه الكذب، لكن قالوا: لا نتبعه ولا نؤمن به، وما كانوا بذلك مؤمنين.
الخلاصة: ليس الإيمان مجرد معرفة الحق وتبينه، بل هو معرفته المستلزمة لاتباعه والعمل بموجبه، كما أن اعتقاد التصديق -وإن سمي تصديقاً- ليس هو التصديق المستلزم للإيمان، والدليل قوله عز وجل: "يَا إِبْرَاهِيمُ* قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا" [الصافات:104-105] .
إذاً: معرفة الحق وتبينه هذا نوع من الهدى، فمن رأى الحق حقاً لكن لم يرزقه الله اتباعه، فهذا في المرتبة الثانية من الهداية، لكن هل هذه المرتبة تستلزم الاهتداء؟ كلا، أما الهدى الذي يترتب عليه الانقياد والعمل والامتثال فهذه هي المرتبة الثالثة التي تستلزم الاهتداء، فهؤلاء الذين ذكرنا أمثلتهم من المشركين أو فرعون أو إبليس أو غير ذلك من اليهود أو النصارى؛ عرفوا الحق ولكنهم لم ينقادوا له، فبذلك لم يصيروا مؤمنين.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تبارك وتعالى: وها هنا أصل آخر، وهو: أن حقيقة الإيمان مؤكدة بالقول والعمل، والقول قسمان: قول القلب: وهو الاعتقاد، وقول اللسان: وهو التكلم بكلمة الإسلام. والعمل قسمان: عمل القلب: وهو نيته وإخلاصه، وعمل الجوارح، فإذا زالت هذه الأربعة زال الإيمان بكماله، وإذا زال تصديق القلب لم تنفع بقية الأجزاء، فإن تصديق القلب شرط في اعتقادها وكونها نافعة، وإذا زال عمل القلب مع اعتقاد الصدق فهذا موضع المعركة بين المرجئة وأهل السنة، فأهل السنة مجمعون على زوال الإيمان، وأنه لا ينفع التصديق مع انتفاء عمل القلب، وهو محبته وانقياده كما لم ينفع إبليس وفرعون وقومه واليهود والمشركين الذين كانوا يعتقدون صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، بل ويقرون به سراً وجهراً ويقولون: ليس بكاذب، ولكن لا نتبعه ولا نؤمن به، مثل أبي طالب لما قال:
ولقد علمت بأن دين محمد * من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذار مسبة *لوجدتني سمحاً بذاك مبينا
فـأبو طالب كان يعلم أن الرسول عليه الصلاة والسلام رسول من عند ربه، لكنه لم ينقد بقلبه لشرائعه؛ فلم ينفعه ذلك.
======================================
أعجبنيأ===========================

قضايا الإيمان والكفر (6)
أنواع الكفر
الأصل الثاني هو: أن الكفر نوعان: كفر اعتقاد وكفر عمل.
قال ابن القيم رحمه الله: وهنا أصل آخر، وهو: أن الكفر نوعان: كفر عمل، وكفر جحود وعناد.
1- فكفر الجحود: أن يكفر بما علم أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء به من عند الله جحوداً وعناداً من أسماء الرب وصفاته وأفعاله وأحكامه.
وهذا الكفر يضاد الإيمان من كل وجه، أي: أن كفر الجحود والتكذيب يضاد الإيمان ولا يمكن أن يجتمع مع الإيمان؛ ففاعله كافر كفراً أكبر.
إذاً: كفر الاعتقاد كله يخرج من الملة إذا كان كفر جحود.
2- أما كفر العمل فمنه ما يخرج من الملة ومنه ما لا يخرج من الملة، وقد يجتمع مع الإيمان مع تسميته كفراً.
يقول: وأما كفر العمل فينقسم إلى:
(أ) ما يضاد الإيمان وإلى ما لا يضاده، فالسجود للصنم كفر عملي، لكن من أي النوعين هو: هل هو مما يجتمع مع الإيمان أم مما يضاده من كل وجه؟ السجود للصنم، والامتهانة للمصحف، وقتل النبي، وسب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أو أحد من الأنبياء؛ هذا كله يضاد الإيمان، ولا يمكن بحال من الأحوال أن يجتمع الإيمان مع وجود شيء من هذه الأفعال.
هذا وإن كان كفراً عملياً فمنه ما يخرج تماماً من الملة.
(ب) ومنه ما لا يخرج من الملة، مثل: الحكم بغير ما أنزل الله كما ذكرنا ووضحنا، ومثل: ترك الصلاة، فتركها كفر عملي قطعاً، ولا يمكن أن ينفى عن فاعل هذا الوزر اسم الكفر بعد أن أطلقه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عليه.
فالله تبارك وتعالى سمى من يحكم بغير ما أنزل الله كافراً، فقال تبارك وتعالى: "وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ" [المائدة:44]، وسمى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تارك الصلاة كافراً، ولكنه كفر عمل لا كفر اعتقاد.
......................................
فهما يستحقان اسم الكفر لكن الخلاف: هل هذا كفر يخرج من الملة، ويضاد الإيمان تماماً، أم لا يضاد الإيمان ولا يحبطه بالكلية؟
أيضاً نفى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الإيمان عن الزاني فقال: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، وأخبر عمن شرع في هذه المعصية -والعياذ بالله- أنه يخرج الإيمان من قلبه، ويبقى فوق رأسه مثل المظلة أو السحابة، ثم يرجع إليه الإيمان.
وكذلك السارق إذا سرق: (لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن) .
كذلك نفى الإيمان عن شارب الخمر، وعمن لا يأمن جاره بوائقه، فإذا نفى عنه اسم الإيمان فهو كافر من جهة العمل، لكن ينتفي عنه كفر الجحود والاعتقاد، فالزنا أو السرقة أو شرب الخمر أو غير ذلك مما وصف بالكفر كفر عملي، وقد يجامع الإيمان وقد لا يجامع كما بينا.
يقول صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)؛ فيؤخذ من هذا الحديث: أن القتال بين اثنين من المسلمين أو طائفتين من المسلمين من الكفر، لكن هذا الكفر من الكفر العملي، فهو لا يخرج من الملة، ولا يضاد الإيمان تماماً.
** إذاً: الكفر العملي منه ما لا يضاد الإيمان، وقد يوجد في الإنسان.
وكما قلنا: إن شعب الإيمان -البضع والسبعون- تسمى إيماناً، وشعب الكفر تسمى كفراً، فعندما يفعل الإنسان شعبة من شعب الكفر يقال: إن هذا الشخص فعل شيئاً من أفعال الكفر، وهذا الفاعل كما جاءت الأحاديث يسمى فاعله كافراً، لكن يحكم له بالإيمان ووجود أصل الإيمان، وإن نقص إيمانه بحسب ما ارتكب من هذه المخالفات، مثلاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أتى امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم)، فهذا كفر عملي.
===========================
قضايا الإيمان والكفر (7)
قاعدة أهل السنة والجماعة في تكفير المعين: 
قال عليه الصلاة والسلام: (إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر! فقد باء بها أحدهما) رواه البخاري يعني: رجع بها أحدهما، لماذا؟
لأن هذا المسلم إن كان فعل فعلاً من أفعال الكفر مثل سب الرسول، أو الدين، أو إهانة المصحف، فإذا قال له: يا كافر؛ فإن كان كما قال وكان صادقاً في الحكم عليه ببينة فهو فعلاً كافر، لكن هذا المسلم إذا لم يكن مستحقاً بأن يوصف بالكفر فإن هذا الشخص الذي وصفه بالكفر يعود عليه الحكم بالكفر؛
ولذلك دائماً نقول: إن القوم الذين يعتقدون أنه لا يوجد كفر دون كفر، وأن كل الكفر يخرج من الملة، نقول: أنتم أولى بالتورع عن إطلاق الحكم بالكفر على المسلمين؛ لأننا أهل السنة والجماعة إذا اعتقدنا أن الشخص إذا حكم على آخر بالكفر، وقال له: يا كافر! ظلماً وعدوناً؛ فإنه يأثم بذلك، ويسمى كافراً، ويقال: إنه أتى بشعبة من شعب الكفر العملي، وهي شعبة تنقص إيمانه، ولكن لا يخرج بها من الملة.
أما هم فإذا أخطئوا في الحكم على شخص بالكفر، وكان هذا الشخص غير كافر في الحقيقة؛ فبنص الحديث سيعود حكم الكفر عليه هو، فيصبح كافراً، وهو لا يعتقد أن هناك كفراً دون كفر، وكل الكفر عنده يخرج من الملة.
فإذاً هذا يستلزم فيه مزيداً من الاحتياط في حقه هو؛ لأنه إذا وصف أحداً بالكفر استحق الكفر إذا أخطأ في الحكم على أخيه بالكفر، فسيكون كافراً كفراً أكبر مخرجاً من الملة في اعتقاده لا كما هو الأمر في الحقيقة؛ فلذلك يجب الحذر في حقه من إطلاق الكفر أكثر من غيره.
وقد سمى الله سبحانه وتعالى من عمل ببعض كتابه وترك العمل ببعضه مؤمناً بما عمل به وكافراً بما ترك العمل به.
قال تبارك وتعالى: "وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ" [البقرة:84]،
(تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ) المقصود: إخوانكم؛ لأن من شدة الرابطة بين المؤمنين وأصحاب العقيدة الواحدة تجد أن الله تبارك وتعالى يعبر بالأنفس عن الإخوان في الله........ يعني: لا تخرجون إخوانكم في الدين.
ومثل هذا قوله: "وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ" [الحجرات:11] يعني: لا تلمزوا إخوانكم.
وقوله: "فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ" [النور:61] يعني: على إخوانكم على بعض التفاسير.
وقوله: "لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا" [النور:12] يعني: بإخوانهم.
"وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ" [البقرة:84-85] يعني: إخوانكم، "وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْم الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ" [البقرة:85]. فأخبر سبحانه وتعالى أنهم أقروا بميثاقه الذي أمرهم به والتزموه، وهذا يدل على تصديقهم بأنه لا يقتل بعضهم بعضاً، وشهدوا بذلك، ولا يخرجوا بعضهم بعضاً من ديارهم، ثم أخبر أنهم عصوا أمره، وقتل فريق منهم فريقاً آخر، وأخرجوهم من ديارهم، فهذا كفرهم بما أخذ عليهم في الكتاب، وهذا إيمان منهم بما أخذ عليهم في الكتاب، فكانوا مؤمنين بما عملوا به من الميثاق كافرين بما تركوه منه، فهذا الإيمان العملي يضاده الكفر العملي، والإيمان الاعتقادي يضاده الكفر الاعتقادي
===========================
قضايا الإيمان والكفر (8)
قول أهل السنة في أهل المعاصي: 
قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)، ففرق بين قتاله وسبابه، وجعل السباب- فسوقاً لا يكفر به، والآخر -القتال- كفراً، ومن المعلوم أنه أراد هنا الكفر العملي، وهذا الكفر لا يخرجه من الدائرة الإسلامية والملة بالكلية، كما لم يخرج الزاني والسارق والشارب من الملة وإن زال عنه اسم الإيمان، هذا التفسير هو قول الصحابة رضي الله عنهم الذين هم أعلم هذه الأمة بكتاب الله، وأعلم الأمة بالإسلام والكفر ولوازمهما، فلا تتلقى هذه المسائل إلا عنهم، فإن المتأخرين الذين أتوا بعد الصحابة ما فهموا كما فهم الصحابة، فانقسموا فريقين: فريق أخرجوا العاصي من الملة بالكلية وقضوا على أصحابها بالخلود في النار، واستدلوا بالأدلة التي فيها نص على بعض الكبائر بالكفر وقالوا: من يفعل هذه الأشياء كافر وخارج من الملة. وفريق آخر اشتط في الجانب الآخر وجعلوهم مؤمنين كاملي الإيمان، وهم المرجئة، فالخوارج ومن تابعهم غلوا وهؤلاء فرطوا، وهدى الله أهل السنة للطريقة المثلى>
والقول الوسط الذي هو في المذاهب كالإسلام في الملل: أن هذا كفر دون كفر، ونفاق دون نفاق، وشرك دون شرك، وفسوق دون فسوق، وظلم دون ظلم.
الظلم على قاعدة أهل السنة:
قال سفيان بن عيينة: عن هشام بن جحير عن طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تبارك وتعالى: "وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ" [المائدة:44] قال: ليس هو بالكفر الذي يذهبون إليه.
قال ابن طاوس : وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله. وقال في رواية أخرى عنه: كفر لا ينقل عن الملة. وقال طاوس : ليس بكفر ينقل عن الملة. وقال وكيع : عن سفيان عن ابن جريج عن عطاء: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق.
وهذا الذي قاله عطاء بين في القرآن لمن فهمه؛ فإن الله سبحانه وتعالى سمى الحاكم بغير ما أنزله كافراً، ويسمى الجاحد ما أنزله على رسوله أيضاً كافراً، وليس الكافران على حد سواء، ويسمى الكافر ظالماً، كما في قوله تبارك وتعالى: "وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ" [البقرة:254] ، فسمى الكافرين ظالمين، وسمى المتعدي حدوده في النكاح والطلاق والرجعة والخلع ظالماً، فقال تبارك وتعالى بعدما أشار إلى بعض أحكام الطلاق: "وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ" [الطلاق:1]؛ فوصفه بالظلم، والكافرون أيضاً وصفهم بالظلم كما قال: "وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ" [البقرة:254].
لكن هل هذا الظلم مثل هذا الظلم؟ لا، فتماثل الأسماء لا يقتضي تماثل المسميات، بل قال يونس عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: "وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ" [الأنبياء:87]، فهل قوله: (من الظالمين) يعني: من الكافرين؟ كلا. لكن هذا ظلم دون ظلم .. بل هي في حق الأنبياء من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين، فهذه معاصي في حق الأنبياء بالنسبة إلى علو مقامهم، لكنها في حق غيرهم من البشر لا تكون معاصي على الإطلاق، إنما يكون النبي يفعل فعلاً معيناً وهو يظن أنه يرضي الله، ويتضح بعد ذلك أنه لم يوافق مرضاة الله تبارك وتعالى، أو يفعل فعلاً كان الأولى ألا يفعله لكنه لا يأثم بذلك، وقد عقد الحافظ ابن حزم رحمه الله تعالى في كتابه (الفصل) فصلاً طويلاً تتبع فيه جميع النصوص التي فيها ما يوهم نسبة المعاصي إلى الأنبياء، وبين تنزيههم عن المعاصي.
وهؤلاء المبتدعة أدى بهم الجهل الفاحش إلى إنكار أن يكون هناك ظلم دون ظلم، وقالوا: إن كل ظلم هو كفر مخرج من الملة، فكان بعض الإخوة حينما يناقشونهم يقول: سنأتي لهم بأدلة تفحمهم تماماً ويسكتون على المعارضة، فقال: قال يونس عليه السلام: "لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ" [الأنبياء:87]، فقالوا: يونس أيضاً كان كافراً، والعياذ بالله! وقالوا: آدم كفر ثم دخل في الإسلام من جديد: "فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ" [البقرة:37]، "قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ" [الأعراف:23]، ففسروا الظلم هنا على أنه ظلم أكبر، وقالوا: إن الأنبياء كفروا والعياذ بالله، سبحان الله! الأمة مجمعة على عصمة الأنبياء من الكفر، وعن كبائر الذنوب، بل وعن صغائرها على القول الراجح، فقول آدم عليه السلام: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا)، هذا ظلم دون الظلم الذي جاء في قوله: "وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ" [البقرة:254] . وقول موسى عليه السلام: "قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي" [القصص:16]، وموسى عليه السلام ما تعمد قتل ذلك الرجل، ولكنه كان شديد القوة عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وما تعمد أن يقتله؛ لذا قال هنا: "قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي" [القصص:16]، فوصف نفسه بالظلم، فهل هذا مثل الظلم في قوله تبارك وتعالى: (وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ)؟ ليس هذا الظلم مثل ذلك الظلم. وقال تبارك وتعالى: "الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ" [الأنعام:82]، هل الظلم هنا ظلم دون ظلم أم ظلم أكبر؟ ظلم أكبر، والدليل قوله تبارك وتعالى حاكياً عن لقمان: "يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ" [لقمان:13]، فهذا ظلم أكبر، وشرك يخرج من الملة تماماً، كما في قوله: (وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ).
الفسق على قاعدة أهل السنة
كما سمي الكافر كفراً أكبر ظالماً يسمى أيضاً فاسقاً، كما في قوله تبارك وتعالى: "وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ" [البقرة:26-27]، فهذا الفسق فسق أكبر مخرج من الملة.
ويقول تبارك وتعالى: "وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ" [البقرة:99]، فهذا فسق أكبر، وهو كثير في القرآن، وليس الفسق كله أكبر، فهناك فسق دون فسق، كما في قوله تبارك وتعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ" [الحجرات:6]، فهذا فسق لكنه فسق دون فسق.
كذلك قوله تبارك وتعالى: "وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ" [البقرة:282] . وقال عز وجل: "وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" [النور:4]، فمن قذف المحصنات وصف بالفسق، لكن هل هو الفسق الأكبر المخرج من الملة؟ كلا.
والدليل: أن إقامة الحد عليه دون حد المرتد، ولو أن الذي يقذف المحصنات يصير فاسقاً فسقاً أكبر مخرجاً من الملة، فلو أقيم عليه حد لكان حد الردة لحديث: (من بدل دينه فاقتلوه)، لكن حد هذا جلد ثمانين جلدة، وهو حد القاذف، فدل على أنه مسلم.
على أي الأحوال: من الأبحاث المهمة: أن بعض الأفعال اختلف علماء أهل السنة في أنها إذا تركت ينقض الإيمان، مثل ترك الإنسان شيئاً من أركان الإسلام بلا جحود، فهذه مسائل خلاف، مثل ترك الصلاة أو الزكاة أو الحج أو غير ذلك، لكنه كافر كفراً أكبر إذا جحدها، أما إذا تركها تكاسلاً أو اتباعاً للهوى أو بخلاً أو نحو هذا؛ فهناك خلاف بين العلماء، والخلاف الحاصل في تارك الصلاة أقوى من الخلاف في غيرها، وجمهور العلماء لا يكفرون تارك الصلاة كفراً يخرجه من الملة، مع اتفاقهم على أنه أشد وزراً من السارق والزاني وقاتل النفس وشارب الخمر والمرابي، فكل هذه الآثام ترك الصلاة أشد إثماً منها، وهذا على قول من لا يكفره. أما تارك الزكاة فالأقرب - والله أعلم- أنه لا يكفر بذلك إلا إذا جحد، وكذلك تارك الحج وسائر الأركان. يقول الله تبارك وتعالى عن إبليس: "فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ" [الكهف:50]، ففسق إبليس هل كان فسقاً أكبر أم كان فسقاً دون فسق؟ هو فسق أكبر. ويقول تبارك وتعالى: "الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ" [البقرة:197]، فهل هذا الفسوق كفسق إبليس؟ كلا.
الجهل والشرك على قاعدة أهل السنة:
كما أن الكفر كفران، والظلم ظلمان، والفسق فسقان، فإن الجهل جهلان، مثل قوله تبارك وتعالى: "خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ" [الأعراف:199]. وهناك جهل غير مكفر، كما في قوله تبارك وتعالى: "إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ" [النساء:17]، فهنا جهل عملي، مثل قوله عليه الصلاة والسلام في الدعاء إذا خرج من البيت: (اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل، أو أزل أو أزل، أو أظلم أو أظلم، أو أجهل أو يجهل عليّ) . وكما يقول الشاعر:
ألا لا يجهلن أحد علينا ** فنجهل فوق جهل الجاهلينا
فهذا جهل عملي، وليس بالجهل الأكبر المخرج من الملة.
كذلك الشرك شركان: شرك ينقل عن الملة، ويخرج من الملة، وهو الشرك الأكبر، وهناك شرك دون شرك، وهو الشرك الأصغر؛ كشرك العمل (الرياء). قال تبارك وتعالى في الشرك الأكبر: "إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ" [المائدة:72]، فهذا شرك أكبر.
وقال تبارك وتعالى: "وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ" [الحج:31] .
أما ما دون ذلك، فقال عز وجل: "فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا" [الكهف:110]، وهذا شرك الرياء كما فسره العلماء بذلك، وهو أن يعمل عملاً لغير الله، يعمله مراءاة للناس، فهذا شرك دون شرك. والشرك الأصغر يدل عليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك)، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (من قال: واللات، فليقل: لا إله إلا الله)، فهذه معصية كفارتها أن تقول كلمة التوحيد. أيضاً من هذا الشرك الذي هو دون شرك، ما ورد في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (الشرك في هذه الأمة -أي: الأمة المحمدية- أخفى من دبيب النمل)، وذكر صلى الله عليه وآله وسلم في نفس الحديث صورة لذلك فقال: (أن يقوم الرجل في صلاته فيطيلها لما يعلم من نظر الناس إليه)، فهذا أيضاً شرك عملي، أو شرك دون شرك. فانظر كيف انقسم الشرك والكفر والفسوق والظلم والجهل إلى ما هو كفر ينقل عن الملة وإلى ما لا ينقل عنها.
النفاق على قاعدة أهل السنة:
النفاق نوعان: نفاق اعتقاد ونفاق عمل، فنفاق الاعتقاد: هو الذي أنكره الله تبارك وتعالى على المنافقين في القرآن، وهو الذي أوجب لهم الدرك الأسفل من النار.
ونفاق العمل، كما في قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الصحيح: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان) . وفي الصحيح أيضاً يقول صلى الله عليه وسلم: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، وإذا اؤتمن خان) .
وهذا نفاق عملي قد يجتمع مع أصل الإيمان، ولكن إذا استحكم وكمل فقد ينسلخ صاحبه من الإسلام بالكلية، وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم؛ فإن الإيمان ينهى المؤمن عن هذه الخلال، فإذا كملت في العبد ولم يكن له ما ينهاه عن شيء منها فهذا لا يكون إلا منافقاً خالصاً، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (أربع من كن فيه -يعني: استحكمت فيه- كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها)، لكن إذا اجتمعت تماماً وتمكنت في هذا الشخص، فهذا في الغالب يكون منافقاً نفاقاً أكبر.
يقول إسماعيل بن سعيد : سألت أحمد بن حنبل عن المصر على الكبائر يطلبها بجهده، إلا أنه لم يترك الصلاة والزكاة، هل يكون مصراً من كانت هذه حاله؟ قال: هو مصر. مثل قوله: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) يخرج من الإيمان ويقع في الإسلام، يخرج من الإيمان الكامل، ويرتفع عنه هذا الوصف الشريف، لكن ما زال في دائرة الإسلام. ونحو قوله: (لا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن) . ونحو قول ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: "وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ" [المائدة:44]. قال إسماعيل بن سعيد : فقلت له: ما هذا الكفر؟ قال: كفر لا ينقل عن الملة، مثل الإيمان بعضه دون بعض، فكذلك الكفر حتى يجيء من ذلك أمر لا يختلف فيه.
===========================

قضايا الإيمان والكفر (9)
مهم جدا
أصل أهل السنة في اجتماع الكفر والإيمان في الشخص: 
الرجل قد يجتمع فيه كفر وإيمان، وشرك وتوحيد، وتقوى وفجور، ونفاق وإيمان، وهذا من أعظم أصول أهل السنة: أنها قد تجتمع هذه الأشياء في الرجل الواحد.
وخالفهم في ذلك غيرهم من أهل البدع كالخوارج والمعتزلة والقدرية، ومسألة خروج أهل الكبائر من النار وتخليدهم فيها مبنية على هذا الأصل، وقد دل عليه القرآن والسنة والفطرة وإجماع الصحابة رضي الله تبارك وتعالى عنهم.
أما القرآن: فيقول الله تبارك وتعالى: "وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ" [يوسف:106]، فهذه الآية تدل على أنه قد يجتمع الإيمان مع الشرك الذي يخالفه، فأثبت لهم إيماناً به سبحانه وتعالى مع الشرك، لكن لابد أن نتذكر أن هناك نوعاً من الشرك لا يمكن أن يقترن مع الإيمان، يعني: إذا كان أصل الإيمان موجوداً قد يجتمع مع أشياء يطلق عليها شرك، لكن ليس بالشرك الذي يخرج من الملة. قال تبارك وتعالى: "قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ" [الحجرات:14]، فأثبت لهم إسلاماً وطاعة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم مع نفي الإيمان عنهم، وهو الإيمان المطلق الذي يستحق اسمه بمطلقه.
والإيمان المطلق هو مثل الذي في قوله: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ" [الحجرات:15]، وهؤلاء الذين ورد ذكرهم في آخر سورة الحجرات ليسوا بمنافقين في أصح القولين، بل هم مسلمون معهم شيء من طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وليسوا مؤمنين وإن كان معهم جزء من الإيمان أخرجهم من الكفر.
يقول الإمام أحمد رحمه الله تبارك وتعالى: من أتى هذه الأربعة أو مثلهن أو فوقهن - يريد الزنا والسرقة وشرب الخمر والانتهاك- فهو مسلم ولا أسميه مؤمناً، ومن أتى دون ذلك - يريد دون الكبائر- سميته مؤمناً ناقص الإيمان، ودل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (فمن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق)، فدل على أن النفاق يجتمع مع أصل الإيمان، وأن الرجل قد يجتمع فيه نفاق وإسلام، وكذلك الرياء شرك، فإذا اجتمع في رجل الشرك والإسلام - كالحكم بغير ما أنزل الله، أو فعل ما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم كفراً، وهو ملتزم بالإسلام وشرائعه ـ؛ فقد قام فيه كفر وإسلام، لكن تذكروا أنه كفر لا ينقل عن الملة، وكفر لا ينافي أصل الإيمان. وقد بينا أن من المعاصي ... شعب من شعب الكفر، كما أن من الطاعات ... شعب من شعب الإيمان، فالعبد تقوم به شعبة أو أكثر من شعب الإيمان، وقد يسمى بتلك الشعبة مؤمناً وقد لا يسمى، كما أنه قد يسمى بشعب الكفر كافراً، وقد لا يطلق عليه هذا الاسم.
أيضاً لا يلزم من قيام شعبة من شعب الإيمان بالعبد أن يسمى مؤمناً، مثلاً: رجل كافر ولكنه كريم يحسن إلى الفقراء والمساكين والضعفاء واليتامى، فهذا قامت به شعبة من شعب الإيمان، وهي الإحسان إلى الخلق، لكن هل يسمى بذلك مؤمناً؟ كلا. فلا يلزم من قيام شعبة من شعب الإيمان بالعبد أن يسمى مؤمناً وإن كان ما قام به إيماناً، ولا من قامت به شعبة من شعب الكفر أن يسمى كافراً وإن كان ما قام به كفراً.
ولذلك نذكر الناس عموماً بهذه المسألة: بعض الناس يتعامل مع بعض الكفار أو النصارى أو غيرهم فيزين له الشيطان أن يمتدح هؤلاء الكافرين فيقول: هذا رجل صادق، ويفي بوعده، ويحترم مواعيده، ويثني على هذا الكافر، ويتعامى عن أمر خطير جداً؛ لأنه قد يفضله على المسلمين والعياذ بالله! وهذا من الخذلان، لأنه يجب على الإنسان أن يعدل في الغضب والرضا، فهل تساوي المسلم الذي معه كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، ويصلي ويصوم ويزكي ويحج برجل عنده حياء أو كرم أو إحسان إلى الخلق؟! من الجور الغفلة عن هذا الأمر.
فأصل الإيمان الموجود مع المسلم لا يمكن أن يساويه أبداً من أتى شعباً من الإيمان، ولا يصير بذلك مؤمناً.
إذاً: القاعدة الأخيرة هي: أنه لا يلزم من قيام شعبة من شعب الإيمان بالعبد أن يسمى مؤمناً، وإن كان ما قام به إيماناً.
==========================
قضايا الإيمان والكفر (10)
التكفير وخطورته:
عندما يتخلى الناس عن علمائهم الربانيين، ويبدءون في الأخذ من الكتب دون الرجوع إلى أهل العلم المتخصصين، تبدأ نقطة التخبط الأولى، فتفسر النصوص حسب الهوى، ويأخذ كل فريق منها ما يراه على ما يريد، فتكون النتيجة الحتمية التطرف إلى أقصى اليمين أو الشمال، وعلى هذا نشأت كل الفرق الضالة، ومنها فرقة الخوارج الذين امتد فكرهم إلى عصرنا وإن اختلفت التعبيرات والأسماء.
نشوء ظاهرة التكفير وأفكارها :
......................
من المهم جداً أن نلم بتاريخ الاتجاهات التكفيرية لأهل التوحيد أو أهل القبلة؛ لأن هذا له أنواع كثيرة جداً خاصة إذا لاحظنا أن كثيراً من البدع التي عادت من جديد هي عبارة عن تكرار وطبع لما نشأ في القرون البعيدة، وتصدى لها أهل الإسلام وأهل التوحيد بالرد والدحض والتفنيد. بل ربما يفاجأ الكثير من الناس الذين ساروا وراء هذه الجماعات الخارجية أو المعتزلية إذا علموا أن نفس هذه المعتقدات التي هم عليها هي ما تصدى له علماء أهل السنة والجماعة من قبل، وشددوا النكير على أهلها. هذا أمر.
أما الأمر الآخر فهو: أننا حينما نناقش ظاهرة التكفير وتاريخ التيار التكفيري في العصر الحديث، فإننا لا ننكر أن لمصر دوراً رائداً في تصدير الخير والفساد إلى العالم الإسلامي شرقه وغربه.
..............
وجذور هذه البدعة جاءت من مصر كما انتشرت إلى جميع العالم بما في ذلك أفغانستان وحتى أوروبا وأمريكا، وهذه البدع صُدرت من مصر كما صدرت مصر الفنانين والراقصين والخبثاء إلى شرق الأرض وغربها. أيضاً بدعة التكفير هذه نشأت في مصر وترعرعت، ونحن كما ندرس الجذور التكفيرية ابتداءً من الشيعة أو الخوارج وغيرهم، أيضاً نحتاج إلى الاطلاع على الظروف التي نشأت فيها بدعة التكفير هنا في مصر، فما من شك أن هذا التطرف إنما نشأ كرد فعل لأوضاع معينة، وربما لم ينضبط الذين انفعلوا بهذه الأحداث بالقاعدة القرآنية العظيمة: "وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى" [المائدة:8]. فكان يقع أحياناً ظلم، وعوامل أخرى كثيرة أدت إلى رد فعل أن بعض الناس ما استطاعوا أن يعبروا عن شعورهم بالقهر والظلم إلا باختراع أو ترديد صدى صوت الكثير من البدع القديمة كوسيلة للتنفيس عما يرونه من ظلم واضطراب.
أسباب ظاهرة التكفير ومبرراتها
أحتاج للحديث عن موضوع التكفير إلى أن أستعير مقدمة للدكتور: نعمان عبد الرزاق السامرائي الأستاذ بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في كتابه: (التكفير جذوره وأسبابه ومبرراته)، وهذه المقدمة تعبر عما يدور في نفس الإنسان حينما يواجه عقيدة أو ظاهرة التكفير، والعوامل التي أدت إلى ظهورها من جديد، وطبيعة الناس الذين قامت على ظهورهم هذه الدعوة.
يقول الدكتور: أتيحت لي فرصة زيارة مصر حيث سجلت طالباً بالدكتوراه في جامعة القاهرة، فكنت أسافر في كل إجازة ـ خلاصة الكلام: أنه احتك بكثير من الشباب في تلك الفترة هنا في مصر ـ ويقول: إن هذه الأفكار الخارجية - أفكار التكفير - ولدت في بطون الكتب، وقل من كان يبحث أو يفتش عنها، ولكن جاء اليوم من ينفض عنها الغبار، ويحاول أن يعيد إليها الحياة، وفي كثير من الأحيان - كما يبدو لي - لم يكن الطارحون الجدد الذين طرحوا هذه الأفكار على علم مسبق، ولكنه لون غريب من التوافق في التفكير أدى إلى عين النتائج.
حصل توافق في التفكير والمنهج بينهم وبين فرق أخرى لم يكونوا هم على علم بها، ولذلك لم يستنكفوا -مثلاً- أن يتبعوا منهج المعتزلة أو الخوارج الأول وأن يشعروا بذلك.
يقول: كما يمكن أن يكون البعض قد درس هذه الفرق وتأثر بمعتقداتها، وبما توصلت إليه من أفكار، وما استشهدت به من حجج.
محاذير:
وقضية التكفير تكتنف الكثير من المحاذير، ولها أضرار كثيرة، وإثارتها باستمرار على عموم الناس الذين ليس لهم رصيد كافٍ من العلم الشرعي ربما أوقع كثرة الكلام فيها إلى تهوين أمور المعاصي في عيونهم؛ نظراً لكثرة الكلام على العذر بالجهل، وأن مرتكب الكبيرة ليس بكافر، وهكذا، فنقع في نفس المحذور الذي حذره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما أخبر معاذ بن جبل رضي الله عنه، وما منعه من أن يخبر الناس من قبل إلا خشية الإثم، وهو قوله : (من مات وكان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة، فقال: أفلا أبشر بها الناس؟ قال: إذاً يتكلوا)، فكثرة الكلام أمام الناس الذين لا تطيق عقولهم ضبط هذه القضايا قد يوقعهم في هذا الاتكال، ويقعون فريسة لتغيير الشيطان، حتى إن بعض الناس ربما ظن أن الجهل شيء يعذر به، مما يدفعه إلى أن يتمادى فيه حتى لا تقوم عليه الحجة، فينبغي الحذر وأن نرفع تلك القاعدة التي أرساها عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حينما قال: (ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة) فيراعي الإنسان طبيعة الذين يخاطبهم في هذه القضية، لما يكتنفها من الكثير من الشبهات.
يتبع،،
======================
ما تم نشره إلى الآن من اختصار سلسلة قضايا الإيمان والكفر للمقدم (العشرة)
قضايا الإيمان والكفر (1)
https://www.facebook.com/photo.php?fbid=284392015033105&set=a.284389618366678.1073741828.284339741704999&type=1&relevant_count=1
قضايا الإيمان والكفر(2)
https://www.facebook.com/photo.php?fbid=284635191675454&set=a.284389618366678.1073741828.284339741704999&type=1&relevant_count=1
قضايا الإيمان والكفر (3)
https://www.facebook.com/photo.php?fbid=284637278341912&set=a.284389618366678.1073741828.284339741704999&type=1&relevant_count=1
قضايا الإيمان والكفر (4)
https://www.facebook.com/photo.php?fbid=284653241673649&set=a.284389618366678.1073741828.284339741704999&type=1&relevant_count=1
قضايا الإيمان والكفر (5)
https://www.facebook.com/photo.php?fbid=288025231336450&set=a.284389618366678.1073741828.284339741704999&type=1&relevant_count=1
قضايا الإيمان والكفر (6)
https://www.facebook.com/photo.php?fbid=285793944892912&set=a.284389618366678.1073741828.284339741704999&type=1&relevant_count=1
قضايا الإيمان والكفر (7)
https://www.facebook.com/photo.php?fbid=285798004892506&set=a.284389618366678.1073741828.284339741704999&type=1&relevant_count=1
قضايا الإيمان والكفر (8)
https://www.facebook.com/photo.php?fbid=286404721498501&set=a.284389618366678.1073741828.284339741704999&type=1&relevant_count=1
قضايا الإيمان والكفر (9)
https://www.facebook.com/photo.php?fbid=286617258143914&set=a.284389618366678.1073741828.284339741704999&type=1&relevant_count=1
قضايا الإيمان والكفر (10)
https://www.facebook.com/photo.php?fbid=287737658031874&set=a.284389618366678.1073741828.284339741704999&type=1&relevant_count=1
أعجبنيأ===================================
قضايا الإيمان والكفر (11)
أهمية بيان خطأ التكفير 
(شبهة خدمة مصالح أعداء الدعوة بعرض هذا الموضوع) 
يقول الدكتور السامرائي : ويبقى سؤال هام: لمن أكتب هذا الكتاب؟......
هل أكتبه للشباب المتحمس عسى أن يراجع نفسه، ويصوب بعض مقولاته؟
وجوابه: نعم، أطمع بذلك، وأرجو ألا أكون متهماً في نظرهم فيسقط الكتاب قبل قراءته.
هل أكتب للشباب المؤمن ـ طلائع الصحوة الإسلامية المباركة ـ حتى لا يسقطوا في التكفير؟ يقول: نعم، أكتب لهم، وأملي أن يقرءوا كلامي بعقل واعٍ لا يقبل قضية إلا محملة بدليلها من كتاب أو سنة، وأقوال الأئمة المعتبرين لدى الأمة، وأن يرفضوا كل قضية لا ينهض دليلها مهما كانت وجيهة، أو صادرة من وجيه كبير.
ثم يقول: هل أكتب للحكومات المنحرفة -وما أكثرها في عالم اليوم- لكي تستعمل كتابي هذا حجة ضد الشباب المؤمن المتحمس؟
أذكر هذا وأبرأ إلى الله منه.
هل أكتب هذا ليطلع عليه بعض علماء المخابرات ليستخدموه حسب هواهم، ووسيلة لكسب السحت من حكام فقدوا جميع القيم، وقادوا أمتهم إلى الذل والهوان من أجل الحفاظ على مناصبهم، والبقاء أطول مدة في الحكم؟ أعوذ بالله من ذلك، وأرجو ألا يقع في أي شبر من هذه الأرض، فعلماء السوء إذا ما أرادوا تسخير علمهم لخدمة السلطة وصاحبها فعندهم الكثير -يعني: يأخذوا من غير كتابي هذا ما يريدونه- وأرجو ألا يستعينوا بجهودي المتواضعة.
إذاً: بكل وضوح أنا أوجه كلامي إلى الشباب؛ من سقط منهم في التكفير ومن لم يسقط.
أهمية تسخير الجهود للحد من التكفير اللامسئول:
يقول: يبقى سؤال هام: هل مثل هذا الجهد يكفي وحده؟ أجيب صراحة: لا؛ لأن الكثير من الحكومات التي تحكم شعوباً مسلمة تضغط عليهم ضغطاً لا يمكن حصوله إلا من عدو، أو من حاكم متواطئ مع العدو، أو عامل بنصائح الأعداء، فهذه السجون التي تغط بالشباب المسلم، وهذه المقاتل بالسر والعلن التي تنصب للشباب المسلم كلها ستدفعه ليكفر هؤلاء الحكام.
يقول: وهل سمع أحد بوزير داخلية في دولة تحترم نفسها يصرح بأن قوانين الطوارئ لا تنفذ إلا على الجماعات الإسلامية، ثم لا يكون من بين ردود الفعل تكفير مثل هذا الحاكم أو ذاك.
يقول: لكن هذا التعسف باستعمال السلطة ضد الشباب المسلم، والذي يصفق له العالم بشرقه وغربه، لا يعفينا من مسئولية بيان الحق من الباطل والصواب من الخطأ، فإن كانت الحكومات جادة في محاربة التطرف -كما تسميه- فلتكف هي عن السماع للشيطان، فإنه لا ينصح إلا بإعدام هذا الشباب؛ لأنه يعاديه حتى الموت، لا لأنه متطرف، بل لأنه مسلم، فالحقيقة جريمة هؤلاء الشباب أنهم يعادون لأنهم متدينون، ولأنهم مسلمون، ثم يغطي القوم هذه الحرب بتلك التسمية الخبيثة: متطرف.
يقول: والمسلم الملتزم صار أكثر خطورة من غيره في نظرهم.
ثم ذكر بداية التقائه ببعض العائدين من هؤلاء الشباب الذين قابلهم في القاهرة في السبعينات التي حضر فيها رسالة الدكتوراه، يقول: التقيت بعض الشباب الذين قد كانوا خرجوا من السجن، وشعرت بأن ثمة تركيزاً كبيراً على قضية التكفير، فلما علموا أن موضوع البحث الذي كان يعده كرسالة هو موضوع الردة أو ظاهرة الردة دهش الشباب، وعلق بعضهم قائلاً: هل أنت من هواة الفقه أم من المحترفين؟! ثم قال له: حالك وهيأتك توحيان بأنك مجرد هاوٍ ..
على أي الأحوال، هو يشير أيضاً إلى فكر جديد طرأ في الساحة الإسلامية في ذلك الوقت: أن الإنسان حتى يوصف بأنه رجل شريف موثوق به لابد أولاً أن يكون قد دخل السجن، وإن لم يكن سجن فهو متهم ومشكوك في نيته.
يقول: يكفي في البلاد العربية أن يسجن الإنسان لغير جريرة حتى تحكم عليه بأنه شريف، وعلى حد قول أحد الأساتذة المصريين: لقد جمع الحكم العلي الظالم كل الشرفاء، وأودعهم السجون، ومن بقي فلا شرف له، يقول هذا الأستاذ: وأنا منهم. يعني: أن من لم يسجن يصير متهماً بغير ذلك.
============================================

قضايا الإيمان والكفر (12)
لقاء مع شباب من جماعة التكفير:
(نرجو المقارنة بينهم وبين شباب الفيس البوك اليوم، الذين أصبحوا عند أنفسهم من العلماء المجتهدين، ولا يعترفون بأحد من أهل العلم ويطعنون فيهم ويتهمونهم في نواياهم فهل يعيد التاريخ نفسه؟!) الآدمن.
يقول (الدكتور السامرائي): استقبلت هؤلاء الشباب بعضهم من الطب وأحدهم من معهد التمثيل، وثالث في كلية العلوم، وكان كل نقاشهم وحديثهم عن الردة، وهال – من الهول - الدكتور نعمان اندفاع الشباب الشديد نحو قضية التكفير، حتى كونوا أحكاماً عجيبة وفقهاً لا مثيل له، قال: ودائماً يزخرفون كلامهم بما يسمعونه عن إهدار كرامة الإنسان، وما يلقاه من عنت وبالذات المسلمين.
ويقول: صرت حينئذٍ أقدر دوافعهم، وكلما ذكرت لهم ذلك استراحت نفوسهم وأشرقت وجوههم، ولكن صارحتهم بخطأ ما توصلوا إليه ـ فالمحاضن الأولى التي نشأ فيها فكر التكفير هي زنازين السجون، والمعاملة التي لقيها هؤلاء الشباب، فكان رد الفعل المقابل أن تصرفوا هم أيضاً في استنباط هذا الفكر الجديد الذي كان صدى لصوت الخوارج والمعتزلة، سواء علموا بذلك أم لم يعلمواـ.
يقول الدكتور نعمان : ولكن صارحتهم بخطأ ما توصلوا إليه، وفي لحظة عارضة قلت: هذا الذي تقولون ليس جديداً.
يعني: استقلالهم بفهم الآيات والأحاديث، واسبتدادهم بتفسيرها بمعزل عن علماء الأمة من أهل السنة والجماعة، فأدى إلى أنهم قالوا نفس كلام الخوارج، حتى كان شكري مصطفى يقول: إن الرجل لو أصر على صغيرة فإنه يكفر كفراً يخرجه من الملة، ولو مات على ذلك فهو كافر مثل فرعون و أبي لهب.
إلى مقولات كثيرة جداً وغريبة جاءت نتيجة هذه الأشياء، وكان بعضهم يستدل – مثلاً - بالخلود في النار لمن أصر على المعصية، ويقولون: قال الله تبارك وتعالى: "بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" [البقرة:81]، ويستدل بعضهم بهذه الآية التي وردت في وعيد قاتل المؤمن عمداً، فهكذا يأتون ببعض النصوص فيفسرونها بمعزل عن فهم أهل العلم والمتأهلين لتفسير القرآن والسنة، فنتجت هذه الغرائب.
يقول: وفي لحظة عارضة قلت: هذا الذي تقولون ليس جديداً، لقد قاله الخوارج كلهم، وقال ببعضه المعتزلة، فدهش الشباب ونظر بعضهم إلى بعض، فكررت ذلك عليهم، فرد أحدهم: مستحيل! فهذه الأحكام وليدة الزنزانات، والفقه البعيد عن أي كتاب؛ إذ لم يكن مع الجميع كتاب واحد.
أي: أنهم لما أنتجوا هذا الفكر لم يكن معهم أي كتاب، بل ما ولدت هذه الأفكار إلا في داخل الزنازين. حتى المصاحف كانت تصادر منهم، وما توصل إليه الشباب فهو اجتهاد يقوم على ما يفقهون من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال: وأردت تطييب خواطرهم فقلت: حالكم ليس فريداً في تاريخنا.
أي أنه: أراد أن يلاطف هؤلاء الشباب ويواسيهم فيما كانوا عليه من الوحدة في الزنازين التي أدت إلى ردة هذا الفعل، ومع ذلك أيضاً لا يمنعه هذا من أن يقول لهم: حالكم ليس فريداً في تاريخنا، فهذا الإمام السرخسي الحنفي أملى مبسوطه في عشرين جزءاً وهو مسجون؛ لأن السرخسي سجن في سجن أوزجد في فرغانة، سجنه أميرها حين قبض عليه، فسجن في داخل البئر، وهذه طريقة غريبة للسجن، فكان تلامذته يأتون ويجلسون على قف البئر، وقف البئر هو: السور من الطوب يكون على بئر مثل السور لأعلى البئر، فكان التلامذة يأتون يجلسون على قف البئر والإمام السرخسي مسجون في ظلمة الجب، فكان يملي عليهم هذا الكتاب من ذاكرته رحمه الله. وكتاب المبسوط معروف أنه من أكبر كتب الفقه الحنفي وأقدمها، وهو في ثلاثين جزءاً بالقطع الكبير أملاه من ذاكرته على تلامذته وهو في السجن.
والإمام أحمد في محنته كان يجلد بالسياط؛ لأنه يمتنع عن القول بخلق القرآن، والطلبة في الخارج كانوا يمسكون بأقلامهم ومحابرهم عساهم يسمعون شيئاً من الرجل الممتحن ليسجلوه.
والإمام مالك جلد جلداً شديداً لفتوى أفتاها لم تعجب الحاكم الظالم.
ثم قلت: أنتم من هذه الأمة وعلى طريقها، ولو حدتم لحزتم الكثير من متاع الدنيا، ولكن ما تذكرون تجدونه لدى الشهرستاني في الملل والنحل.
يعني: مع ما أنتم عليه من الابتلاء بسبب الدين وما تقولونه من أفكار، إن أردتم توثيقها ورجعتم إلى كتب الفرق والملل والنحل ستجدون نفس هذه الأفكار مدرجة في قوائم أهل البدع والضلال كالخوارج وغيرهم، سواء في كتاب الملل والنحل للشهرستاني ، أو الإمام البغدادي في كتابه الفرق بين الفرق، و الأشعري في مقالات الإسلاميين.
يقول: وأقول لكم بحدود ما أعلم: ليس هناك جديد فيما تذكرون، فدهش الشباب دهشة كبيرة، واعترف بعضهم بأنه لم يسمع بهذه الكتب، وقال بعضهم: إنه سمع بها، ولكنه لم يرها، قلت: يا شباب! إذا كنا لم نطلع أو نقرأ فلنسمع إلى العلماء وهم في مصر كثر، ونظر بعضهم إلى بعض، وكأني قلت منكراً من القول وزوراً! أي: كيف يقول: إن مصر فيها علماء؟! وقال أحدهم: أنت غريب وحسن الظن، ما تراه هنا هم تجار يبيعون دينهم وعلمهم للحاكم الكافر عوض دراهم معدودة، وتملقاً بلا ثمن في أحوال كثيرة، ثم راحوا يذكرون قضايا تخزي أمة بكاملها، ويستحي منها الفجار، ولا يقدم عليها إنسان فيه وزن بعوضة من دين.
قال أحدهم بحسرة: كانوا يأتون ببعض هؤلاء التجار وكانوا يناقشوننا في بدهيات يعرفها الطلبة في المدارس الابتدائية، ويدافعون عن تصرفات الحاكم بما لا يفعل مثله الحاكم أو زبانيته من الشرطة والجلادين.
فانظر إلى الفتنة والظروف التي كان هؤلاء الشباب يعيشون فيها؛ فأنتجت رد الفعل هذا وعدم الثقة في بعض الشيوخ.
يقول: إن بعض هؤلاء الشيوخ الذين كانوا يأتون بهم ليناظروهم ويقنعوهم وأيديهم مقيدة بالأغلال والسيوف على رقابهم، ويأتي هؤلاء الشيوخ ليناظروهم وليقنعوهم وليقيموا الحجة عليهم.
يقول: كان بعض هؤلاء المحاضرين يقول لهم: إنه تفاهم مع المسئولين عن التعذيب لتخفيف ذلك على من يستجيب ويترك التشدد والانحراف، فإذا قام له بعض الشباب وقالوا: ليس هناك تشدد ولا انحراف، وإن الأمة وأصحاب المذاهب جميعاً يقولون بأن من أحل الحرام أو حرم الحلال فقد كفر، قهقه الشيخ وقال بسخرية: لا ترجع لهذه المذاهب وخذ عني، فأنا متخصص بمقارنة الأديان.
فرد عليه الشباب قائلين: الإسلام ليس فيه بابا ولا قسس يفسرونه للناس، وقرأ عليه قوله تعالى: "قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ" [الأنعام:162-163].
وفصل الكلام في قضية التشريع، وأن الشرك في الحكم كالشرك في العبادة، فكان يرد الشيخ عليهم كلما يستدلون بهذه الآية، يقول له: يا بني! هذا خاص بالرسول عليه الصلاة والسلام.
يقول: فنقول له بأن الإمام البخاري رحمه الله ذكر في دعاء الصلاة الدعاء المعروف: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين)، هذا الدعاء يردده كل مسلم، وبعض العلماء يقولون: تقول: وأنا من المسلمين، والبعض يقول: بل تقول كما قال عليه الصلاة والسلام: (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ).
فرد عليهم ذلك الشيخ بقوله: إني قرآني، و البخاري صواب لكن القرآن حق، والحق مقدم على الصواب. وخلاصة الكلام: أنه أنكر الأحاديث، وقال: إنه لا يعترف بالسنة مطلقاً، وإنما يعترف بالقرآن.
على أي الأحوال هو يذكر بعض القصص، إلى أن ينتهي إلى قوله:
قلت: وأين أنتم عمن تثقون به من العلماء؟ قال الشباب بحسرة: العلماء الذين نثق بهم ليس بمقدورنا الاتصال بهم ومناقشتهم كما نريد، فحكى لهم حكاية عن صديق له أستاذ في الجامعة تقدمت به السن، وكانوا يلحون عليه في الزواج، وكان كلما عاتبوه في عدم زواجه مع تقدم سنه يقول: إن شاء الله.
يقول: ومرة انفردت به وقلت له: ماذا تنتظر؟ لماذا لا تتزوج؟ فقال: يا فلان! أنا في حيرة، فمن أريدها زوجة وأرضاها وأتمناها لا ترضى بي، ومن ترضى بي وتريدني لا أرغب بها ولا أرضاها زوجة، وهذه مشكلتي، ضحك الشباب، يقول: وقليلاً ما يضحكون، وقالوا: هذه هي مشكلتنا، فمن تأتي بهم الحكومة لمناقشتنا كلهم من جواسيس الظالم وأعوانه، وعلمهم من علم إبليس فلا نثق بهم.
يقولون: حتى لو كان ما يقولونه حقاً، ومن نثق به وبعلمه لا نصل إليه، وهذه مشكلتنا.
وهنا يدخل الشيخ في نقطة مهمة جداً ويقول: الذي أخشاه: أن فقد الثقة بالعلماء سيحملكم على أحد الأمرين، أو على الأمرين معاً: الاجتهاد من غير استعداد كافٍ ومعرفة تؤهل لذلك، أو العودة للكتب والأخذ عنها دون الاستعانة بأحد، وفي الاثنين من المخاطر ما فيهما!
وقال أحد الشباب: لقد وقعنا في الاثنين معاً، ففي السجن الاجتهاد، والذي يخرج من السجن يقرأ الكتب، وبعضنا لم يدرس اللغة العربية إلا في المدارس الرسمية، والذين درسوا في القسم العلمي لا يذكرون من العربية وقواعدها وآدابها شيئاً، وهم داخل السجون يفتون، وكل اعتمادهم على القرآن والسنة. وهذا الكلام أنا لا أقصد به التشجيع، لكن لننظر الظروف التي نشأ فيها هذا النوع من الفكر، حتى إني أعرف بعض الإخوة من الشباب حديثي السن كان يلقب في داخل السجن بالإمام الفلاني.
====================================
قضايا الإيمان والكفر (13)
الجذور التاريخية لفكر التكفير:
(ظاهرة: تحول الخلافات السياسية إلى خلافات عقائدية، وحدوث الانشقاقات الداخلية عند المبتدعة، وتكفير بعضهم لبعض قديمة حديثة) الآدمن.
ثم تطرق الشيخ إلى بحث مهم جداً يتعلق بالجذور التاريخية لفكر التكفير.
الشيعة:
وبدأ بظاهرة التكفير عند الشيعة، يقول: ينبغي أولاً استعراض الفترة من مقتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه، وما لحق بذلك من اقتتال المسلمين في حروب الجمل وصفين والنهروان. يعني: وقع ما يمكن أن يسمى بالحروب الأهلية بين المسلمين، وكان من البداهة أن يثور الجدل والنقاش حول من يكون الحق معه، ومن هو على غير الحق، لماذا يقف هؤلاء في طرف، وهؤلاء في طرف آخر، بينما يقف آخرون على الحياد؟ يقول الشيخ المودودي رحمه الله: نتيجة لهذه الأسئلة ولدت بعض النظريات المستقلة بذاتها، كانت في أصلها نظريات سياسية خالصة، ثم ما لبث دعاتها أن اضطروا شيئاً فشيئاً لأن يرتبوا لها بعض الأسس الدينية، كي يقووا جانبهم ويحصنوا موقفهم، فتبدلت الفرق السياسية رويداً رويداً إلى فرق مذهبية، وما حصل في البداية من قتل وسفك دماء، واستمر بعد ذلك في عهد بني أمية وبني العباس فلم تبق القضية قاصرة على مجالات العقيدة ... إلخ، ومعروف قضية الاختلاف حول الخلافة.
وحصل تطور في عقيدة الشيعة عن طريق عبد الله بن سبأ اليهودي أو ابن السوداء أدى إلى تبلور المذهب الشيعي في صور عقائدية محددة كانت تخرج بأصحابها عن أصول الدين، وأصول العقيدة...، وحينما ادعى ابن سبأ أن لكل نبي وصياً، وأن وصي النبي عليه الصلاة والسلام هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وحينما وضع مصطلح الإمامة بدل مصطلح الخلافة، واعتقدوا في الأئمة أنهم يكونون كذا، وأنهم لا ينسون، ولا يخطئون، وكل ما يصدر عنهم فهو حق وصواب، وأن علياً هو الإمام بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الإمامة واجبة على الله -تعالى الله عن ذلك- وليست واجبة على الأمة، وحصروا الأئمة في الإثني عشر المعروفين، وأن الإمامة تكون بالنص وليست بالاختيار، وهكذا تفرقت طوائف الشيعة وتعددت، وحصل انحراف شديد جداً، حتى إن بعض هؤلاء الفرق الضالة من الشيعة زعموا بأن علياً هو الله، وزعموا أنه الإله، وأنه حي ويسكن القمر.
فحصل تكفير من طوائف الشيعة الأخرى لأمثال هؤلاء، هذه نظرة على أحد عوامل التكفير الأولى التي حصلت بتحول الخلافات السياسية إلى خلافات عقائدية، فبرزت أول ظاهرة في فرقة الشيعة وما لديهم من أفكار.
الخوارج:
أما الخوارج فهم يأتون بعد الشيعة في هذه المسألة، وكانوا في البداية من أتباع وأنصار علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكانوا يقاتلون تحت رايته ويؤيدونه، ثم في حرب صفين لما طلب معاوية رضي الله عنه إيقاف القتال واللجوء إلى التحكيم لتصفية هذا النزاع، .... فلما ـ قبل ـ التحكيم خرج عليه طائفة من أتباعه رفضوا هذا التحكيم، ورفعوا هذا الشعار: لا حكم إلا لله، ففهموا أن تحكيم الرجال انحراف في قضية الحاكمية، فمن حَكَّم غير الله فقد كفر بالله، فكان رد علي بن أبي طالب عليهم بالكلمة المشهورة: (كلمة حق أريد بها باطل)، ثم بعث لهم عبد الله بن عباس لمناقشتهم وإقامة الحجة عليهم، فرجع الكثير منهم عن آرائهم، ولكن بقيت جموع منهم كبيرة مصرة على التكفير.
ثم انقسمت الخوارج أيضاً إلى فرق متعددة: إذ إن من خواص أهل البدع حصول هذا الانشقاق الداخلي الذي يجعل الفرقة الواحدة فرقاً شتى.
أما خلاصة نظريات الخوارج فتتلخص في أنهم يقولون بصحة خلافة أبي بكر و عمر، أما عثمان فقالوا: إنه انحرف -والعياذ بالله- في آخر خلافته عن العدل والحق، فكان يستحق القتل أو العزل، وإن علياً رضي الله عنه ارتكب كبيرة بتحكيمه غير الله، وإن الحكمين: عمرو بن العاص و أبا موسى الأشعري ومن نصبهما من جميع أصحاب علي و معاوية كلهم مذنبون، وأيضاً الذين اشتركوا في حرب الجمل جميعاً ارتكبوا ذنباً عظيماً، والذنب والمعصية عندهم تعني الكفر! فيكفرون كل مرتكب كبيرة ما لم يتب منها، ولذلك كفروا كل هؤلاء الصحابة الذين سبق سرد أسمائهم، بل لم يتورعوا عن لعنهم وسبهم، على أنهم كفروا عامة المسلمين أيضاً؛ لأنهم لم يستغفروا من الذنوب، فكفروا عامة المسلمين أيضاً بهذا؛ لأن عامة المسلمين يعتبرون الصحابة رضي الله عنهم ليسوا مؤمنين فحسب، بل يتخذونهم أئمة لهم، ويثبتون الأحكام الشرعية بالأحاديث التي تؤثر عن طريقهم.
أيضاً قالوا: إن الخلافة لا تنعقد إلا بالانتخاب الحر بين المسلمين وليست عن طريق آخر، وكانوا ينكرون ضرورة أن يكون الخليفة قرشياً، ويوجبون قتال الخليفة أو عزله أو قتله إذا حاد عن طريق العدل والصلاح.
وكانوا يقبلون القرآن كمصدر من مصادر التشريع الإسلامي، أما السنة والإجماع فلهم فيها سبيل مختلف وشاذ عن سبيل عامة المسلمين، هذا هو السبب في موقف الخوارج من جمهور الصحابة الذين نقلوا السنة والإجماع.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: فقال هؤلاء الخوارج: من مات إما مؤمناً أو كافراً، المؤمن هو من فعل جميع الواجبات وترك جميع المحرمات، فمن لم يكن كذلك فهو كافر مخلد في النار، ثم جعلوا كل من خالف قولهم أيضاً كذلك، فقالوا: إن عثمان و علياً ونحوهما حكموا بغير ما أنزل الله، ظلموا وصاروا كفاراً، ومذهب هؤلاء باطل كما سيأتي -إن شاء الله- إثبات بطلانه بدلائل كثيرة من الكتاب والسنة.
فافترقت الخوارج ... وتشعبت إلى فرق شتى، وأهم خصائص هذه الفرق المنشطرة: أنهم يكفر بعضهم بعضاً، ويقتل بعضهم بعضاً، ويستحل بعضهم حرمات بعض، وقد انقسموا إلى أكثر من عشرين فرقة من أشدها: المحكمة والأزارقة، ومن أقلها تعصباً الإباضية، وهم منتشرون حتى الآن في بعض البلاد العربية، ولهم السطوة في عمان، وعمان أصلاً دولة خارجية يغلب عليها مذهب الخوارج، وربما يوجدون أيضاً في الصحراء الإفريقية، أو ليبيا وبلاد المغرب العربي، ومع ذلك فهم يقولون بكفر كافة المسلمين، ويقولون: هم غير مشركين، وبالتالي يقبلون شهادتهم ويتزوجون منهم ويتوارثونهم.
وهناك فرقة من فرق الخوارج تسمى: النجدات العامرية، وصلت إلى ما نسميه اليوم بالفوضوية، فقالت: إن قيام دولة الخلافة غير ضروري إطلاقاً، وبإمكان المسلمين أن يعملوا بشكل جماعي متبعين الحق، ولكن يجوز انتخاب الخليفة إذا لزم ذلك.
أيضاً مما يلفت النظر بالنسبة للخوارج: أن الخوارج كانوا على درجة كبيرة جداً من الاجتهاد في العبادة، بل وربما وصفوا بالإخلاص، ولهم في ذلك أخبار لا ينقضي منها العجب، من شدة قراءة القرآن والتعبد والتبتل والتورع الزائد عن الحد، حتى إن أحدهم كان يمر فمر به خنزير لرجل من أهل الكتاب فقتله، فقالوا له: أنت ظلمت هذا الرجل الذمي، وقاموا عليه قياماً شديداً ولم يسكتوا حتى عوضوا ذلك الرجل وأرضوه. وسقطت بلحة من النخل فالتقطها واحد منهم فأكلها، فثاروا عليه وقالوا: أكلتها بغير حقها، وأنكروا عليه حتى أخرجها، وهكذا كانوا يتورعون في أخف الأشياء، ثم هم على جانب كبير جداً من العبادة، ومع ذلك كانوا يتجاسرون ويجترئون على القدح في خيار الأمة، كما أشرنا من قبل إشارة عابرة إلى فرقة المعتزلة حين تكلمنا عن تاريخ الفرق، ثم بعد ذلك ظهرت فرقة الخوارج.
فإذا كانت الشيعة تقف في أقصى اليمين تكفر من خالف علياً رضي الله عنه، أو غالبه أو نازعه، فقد وقع الخوارج في أقصى اليسار، فهم يكفرون علياً ومن حاربه.
المرجئة:
ثم ظهرت فرقة المرجئة -والإرجاء بمعنى التأخير- فلم يعجبها تصرف كلا الفريقين: الخوارج والشيعة، فمالت نحو الحياد التام، وقالت: نحن نؤجل الكلام فيهم، وأمرهم متروك إلى الله يفصل فيه يوم القيامة.
ثم تطورت معاني الإرجاء إلى أن وصلت إلى مدرسة فكرية محددة، وأهم آرائهم: أن الإيمان هو الاعتراف بالله وبالرسول فحسب، وأن العمل ليس ضرورياً في الإيمان، وعلى هذا فالمرء يبقى مؤمناً حتى لو كان تاركاً للفرائض مرتكباً للكبائر.
يعني: أن الفروق الأساسية بين أهل السنة والمرجئة: أنهم يقولون: إن الإيمان هو مجرد المعرفة، وإن أهله لا يتفاضلون فيه، وأنه لا يزيد ولا ينقص، ولا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة.
على أي الأحوال لم تستجب الأمة الإسلامية بأسرها لهذه الاتجاهات، وكان الجمهور الأعظم والسواد الأعظم من الأمة الإسلامية بعيداً كل البعد عن الانخراط وراء هذه الفرقة، بالذات في عهد الخلفاء الراشدين، وكان جمهور المسلمين في تلك العصور الأولى ينظرون إلى هذه النظريات على أنها فرق ضالة خارجة عن عقيدة أهل السنة والجماعة والفرقة الناجية.
=============================


قضايا الإيمان والكفر (14)
أسباب التكفير في العصر الحاضر:
أما عودة التكفير في عصرنا الحاضر، فكان له عدة أسباب:
أولها: الاضطهاد السياسي.
ثانيها: فقدان الثقة بالعلماء الرسميين.
(قد تم التنويه لشيء منهما في الجزء السابق من السلسلة)الآدمن.
ثالثها: محاولة أخذ الأحكام من القرآن مباشرة دون معرفة كافية..........
وجد شباب لا حظ له لا من علوم اللغة، ولا من علوم القرآن، ولا من علوم السنة، ولا من أدوات النظر المباشر في القرآن الكريم .. تجاسر هؤلاء الشباب على أخذ هذه النصوص، بحيث أثمروا وأنتجوا هذا الفكر..........
ومما وقع فيه بعض الشباب من هذه النماذج في هذا الزمان:
(شبهة): أن بعضهم يرى أن المسلم متى ارتكب معصية صغيرة أو كبيرة فيلزمه التوبة فوراً، وإلا صار كافراً، واستشهدوا بقوله تبارك وتعالى: "إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً" [النساء:17].
(الإجابة): أنهم لم يجمعوا هذا النص الحكيم بغيره من النصوص، وبالذات الآية التي تلي هذه الآية، وهي قوله تبارك وتعالى: "وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ" [النساء:18]، فقوله: (من قريب) يعني: عند حدوث الموت، فإذا أضفنا إلى ذلك أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه). تبين أن التوبة لها أجلان: أجل في حق عمر الدنيا، وأجل في حق عمر الإنسان، فلو أن رجلاً أذنب ذنباً، وأخطأ بأن سوَّف في التوبة، وعاش فترة بعد ذلك، فهل يعيش هذه الفترة كافراً بهذا الذنب؟ فاستدلالهم بقوله تبارك وتعالى: "إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ" [النساء:17] استدلال فيه نظر، فأجل التوبة يكون إما بحضور الأجل، كما قال عليه الصلاة والسلام: (تقبل توبة العبد ما لم يغرغر)، وأما في عمر الدنيا فحين تطلع الشمس من مغربها يغلق باب التوبة.
فالشاهد: أن بعض الناس ربما بتروا نص القرآن عن جملة ما ورد من النصوص في ذلك، فينشأ عن ذلك هذا التحريف في المعاني.
(شبهة): كذلك أيضاً استدلالهم بمثل قوله تبارك وتعالى: "بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" [البقرة:81]. قالوا: (( سَيِّئَةً )) هنا تعم كل معصية، وقوله: ((وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ)) إشارة إلى الإصرار عليها إلى أن يموت عليها.
(الإجابة): والرد على ذلك: أن هذه الآية نزلت في اليهود، فقوله: (( بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً )) يعني: مثل سيئتكم أيها اليهود! وكفر مثل كفركم، أو أشرك مثل شرككم، والسياق يوضح لنا ذلك؛ حيث يقول تبارك وتعالى: "وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ * فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً [البقرة: 78-80]، يعني: الأيام المعدودة التي عبدوا فيها العجل، "قُلْ أتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" [البقرة:80-81] فلا يقاس أبداً المسلم الذي ارتكب المعصية على المشرك، أو الذي ارتكب هذه السيئة الكبيرة التي فعلها اليهود.
(شبهة): وكذلك استدلالهم بقوله تبارك وتعالى: "وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً" [النساء:93]. ومعلوم الخلاف في تفسير هذه الآية.
(الإجابة): والأقرب إلى منهج أهل السنة والجماعة والصحيح: أن قاتل المؤمن إذا تاب فإنه تقبل توبته، ولا يخلد في نار جهنم، وإنما المقصود بالخلود هنا طول المكث، والدليل قوله تبارك وتعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ" [البقرة:178]، فأثبت لهم أخوة الإيمان مع وجود هذا الاقتتال، فدل على أنه لم يكفرهم بذلك. أيضاً: حصل بعض الانحراف لديهم، بحيث قرر بعض الناس مقولة: المنزلة بين المنزلتين، فيقولون: هذا الشخص لا نحكم عليه بأنه مسلم ولا نحكم عليه بأنه كافر، بل هو في منزلة بين منزلتين، لكن لا يستعملون تعبير المعتزلة؛ لأنهم لم يكونوا قد وقفوا عليه، وإنما قالوا: نتوقف فيه.

رابعها: الخلط بين الكفر الأصغر، والكفر الأكبر، سواء كان كفر الاعتقاد أو كفر الأعمال.
راجع الجزء رقم (6) من السلسة أنواع الكفر.
خامسها: التعلق بنصوص بعض المفكرين الإسلاميين وبالذات بـسيد قطب و المودودي رحمهما الله، فقد كان لهما بعض عبارات فهمت بطريقة أو بأخرى أدت إلى تغذية هذه الأفكار منذ البداية.
...............
وذلك أن الشيخين صدر منهما في بعض المؤلفات عبارات فهمت خطأ، أو تكون هي نفسها إذا عرضت على ميزان عقيدة أهل السنة والجماعة يكون فيها بعض النظر، خاصة ما ورد في مقدمة سورة الأنعام في تفسير الظلال، وما جاء في كتاب (المصطلحات الأربعة) للشيخ: أبي الأعلى المودودي رحمه الله تعالى.
(والقاعدة التي أرساها الإمام مالك رحمه الله تعالى؛ بل حكاها عنه الشافعي حينما حضر عليه في المسجد النبوي بالمدينة، كان يجلس الإمام مالك رحمه الله بجوار قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان كلما ناقشه أحد في قضية خالف فيها الدليل، فكان الإمام مالك يمد يده ويقول: كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر، ويشير أو يضع يده على قبر النبي صلى الله عليه وسلم)
يرى الشيخ المودودي في كتابه: (المصطلحات الأربعة) أن هناك فهماً للمصطلحات الأربعة التي هي: العبادة، والرب، والدين، والإله. هذا الفهم كان عند العرب موجوداً بحكم السليقة العربية، وفقههم لمعاني الكلام في اللغة؛ فلذلك كان أحدهم إذا نطق بكلمة التوحيد؛ فإنه كان يدرك تماماً ما يستتبعها من معان ولوازم، فإذا ما جاء بعد ذلك من ليس على نفس هذه السليقة العربية ونطق بكلمة التوحيد دون أن يحيط علماً بمعانيها ومرامها ولوازمها فهذا لم يدخل في الإسلام أصلاً. وهذا الكلام الغريب لم يعهد من قبل، ولم يصدر فيما نقل من كلام العلماء إلا فيما ذهب إليه العلامة محمد بن إسماعيل الصنعاني في كتابه: (تطهير الاعتقاد عن أدران الكفر والإلحاد) فقد قال من قبل هذه المقولة، وأنكر عليه كثير من العلماء حين قال: إن من لم يحط علماً بلوازم هذه الكلمات: العبادة، والرب، والدين، والإله كما كان السلف أو كما كان الصدر الأول، بسبب علمهم باللغة العربية؛ فمن نطق بها ولم يعلمها كما علموها فهو كافر أصلي لم يدخل في الإسلام أصلاً، ولا شك أن في هذا مصادمة صريحة لنصوص النبي صلى الله عليه وآله وسلم التي تثبت الإسلام لمن نطق بالشهادتين.
وردد الأستاذ سيد قطب رحمه الله في مواضع كثيرة عبارات المودودي رحمه الله. .....
==================================
قضايا الإيمان والكفر(15)
أصول أهل السنة والجماعة في الإيمان والكفر:
أما عن أصول أهل السنة والجماعة في قضية الإيمان فهي متعلقة بمعنى كلمة الإسلام والإيمان، وخلاصة الكلام في تعريف الدين أنه عبارة عن قول وعمل، قول بالقلب وقول باللسان، وعمل بالقلب وعمل باللسان والجوارح.
والقول بالقلب هو التصديق، وأن يوقن الإنسان بأحقية هذا الذي يؤمن به ويصدقه، وقول اللسان هو النطق بالشهادتين.
أما عمل القلب فهو ما لا يؤدى إلا بالقلب كالنية، الإخلاص، الخوف، الرجاء، المحبة، الإنابة، الإخبات، التوكل، الانقياد، الإقبال على الله، ولوازم هذه الأعمال القلبية.
أما عمل اللسان فهو ما لا يؤدى إلا باللسان من العبادات، كالذكر، وقراءة القرآن، والاستغفار، والتهليل، والحوقلة، والحلف، والنذر وهكذا.
وعمل الجوارح فهو ما لا يؤدى إلا بالجوارح، كالصيام، والصلاة، والركوع، والسجود، والجهاد وغير ذلك، فهذا هو جماع معنى الدين، قول وعمل، قول بالقلب وقول باللسان، وعمل بالقلب وعمل باللسان والجوارح.
أما الكفر فهو على أنواع أربعة مقابلة لأنواع الإيمان التي هي: قول بالقلب وقول باللسان، وعمل بالقلب، وعمل بالجوارح.
- فإذا انتفى التصديق الذي هو قول القلب؛ فسوف يكون هذا هو النوع الأول من الكفر، وهو كفر الجهل والتكذيب؛ لأنه انتفى تصديق القلب مع عدم العلم بالحق.
- النوع الثاني: كفر الجحود، وهو كتم الحق مع العلم بصدقه، هذا نوع آخر من الكفر، فهو يعلم أن هذا حق؛ لكنه يكتمه، وهذا هو كفر الجحود: "وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا" [النمل:14].
- النوع الثالث: كفر العناد والاستكبار، فينفي في هذا الكفر عمل القلب والجوارح مع المعرفة للقلب والاعتراف باللسان، فهو يعرف أن هذا حق؛ لكن ينتفي عمل القلب من الانقياد والمحبة، والخوف والرجاء .. إلى آخر أعمال القلب، فينفي عمل القلب، وينتفي عن صاحبه عمل الجوارح مع وجود المعرفة بالقلب والاعتراف باللسان أن هذا حق، هذا مثل كفر إبليس وأغلب اليهود لعنهم الله، ومثل كفر من ترك الصلاة عناداً واستكباراً، ويوضع السيف على رقبته ويقال له: إما أن تصلي أو تقتل فيختار القتل، فما من شك أن هذا لا يمكن أن يكون في قلبه تصديق؛ لأن الصلاة فرض من فروض الدين؛ ولأنه إذا وجد التصديق في القلب لوجد العمل، فإذا انتفى مع وجود هذه الحالة يخير بين القتل وبين الصلاة، فيختار القتل على الصلاة، فحصل هذا العناد منه بسبب غياب التصديق في قلبه.
- النوع الرابع: كفر النفاق، وفي هذا النوع ينتفي عمل القلب من النية والإخلاص والمحبة، ففي النفاق تنقاد الجوارح الظاهرة؛ لأن المنافق يظهر شعائر الإسلام، يصلي ويصوم ويزكي ويفعل جميع الأفعال الظاهرة؛ لكن ينتفي عمل قلبه.
إذاً: أنواع الكفر كل منها على حدة يخرج من الملة بالكلية، فإذا انضمت كلها ووجدت في شخص واحد فهي ظلمات بعضها فوق بعض وزيادة في الكفر، كفر الجهل والتكذيب، كفر الجحود، كفر العناد والاستكبار، كفر النفاق.
تعريف الإسلام والإيمان لغة واصطلاحاً:
....الإسلام في اللغة: الانقياد والإذعان.
أما الإسلام في الشرع فيأتي على حالين:
الأول: يطلق على الإفراد غير مقترن بذكر الإيمان، فحيثما أطلقت كلمة الإسلام ولم يقترن بها لفظ الإيمان، فحينئذٍ يراد به الدين كله، أصوله وفروعه، اعتقاداته وأقواله وأفعاله.
الثاني: إذا أطلق الإسلام مقترناً بالإيمان، أو مقترناً بالاعتقاد فينصرف فقط إلى الأعمال والأقوال الظاهرة.
أما الإيمان لغة: فهو التصديق.(الجازم)
أما الإيمان شرعاً: فيطلق أحياناً على الإفراد غير مقترن بذكر الإسلام؛ فيراد به هنا الدين كله.
أو تأتي كلمة الإيمان وتطلق مقرونة بالإسلام، فهنا يفسر الإيمان بالاعتقادات الباطنة.
وبالتالي: ينطبق علينا القول المعروف: ((الإسلام والإيمان إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا)).
.....
تفنيد مذهب المنحرفين في تعريف الإيمان
يقول بعضهم الإيمان هو مجرد التصديق فقط بما عند الله. وهذا الذي قاله ابن الراوندي، ومن وافقه من المعتزلة وغيرهم.
أما الجهم بن صفوان فزعم أن الإيمان هو المعرفة بالله فقط.
والمرجئة والكرامية قالوا: إن الإيمان هو الإقرار باللسان دون عقد القلب، وقال آخرون: هو التصديق بالجنان والإقرار باللسان.
أما الخوارج والعلاف ومن وافقهم فقالوا: الإيمان هو الطاعة بأسرها فرضاً كانت أو نفلاً.
وقال الجبائي وأكثر المعتزلة: هو الطاعات المفروضة من الأفعال والتروك دون النوافل، وقال الباقون من المعتزلة: هو العمل والنطق والاعتقاد.
ونحاول أن نوضح المخالفات الموجودة في كلام كل منهم على حدة.
أركان الإسلام والإيمان
أما الكلام في مسمى معنى الدين والإسلام والإيمان، فنحتاج أن نصدره بالحديث الشهير حديث جبريل عليه السلام، وقد رواه مسلم بسنده عن ابن بريدة ، عن يحيى بن يعمر ، قال: كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني ، فانطلقت أنا و حميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر، فوفق لنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما داخلاً المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي، أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فظننت صاحبي سيكل الكلام إليّ، فقلت: يا أبا عبد الرحمن ! إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن ويتقفرون العلم، وأنهم يزعمون أن لا قدر، وأن الأمر أُنف، قال ابن عمر : فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني، والذي يحلف عليه عبد الله بن عمر ؛ لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر. ثم قال: حدثني أبي عمر الخطاب رضي الله عنه قال: (بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم؛ إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً، قال: صدقت، قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه! .....- قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: صدقت، قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه؛ فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، قال: فأخبرني عن أماراتها؟ قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان، قال: ثم انطلق فلبثت ملياً، ثم قال لي: يا عمر ! أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم! قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم). وروايات هذا الحديث كثيرة نكتفي منها بهذه الرواية.
================================
قضايا الإيمان والكفر (16)
(الإيمان عند أهل السنة)
الأركان الجامعة للدين
يقول الشيخ حافظ حكمي رحمه الله في كتابه (معارج القبول):
اعلم بأن الدين قول وعمل ** فاحفظه وافهم ما عليه ذا اشتمل
يعني: اعلم بأن الدين الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه ورضيه لأهل سماواته وأرضه، وأمر ألا يعبد إلا به، ولا يقبل من أحد سواه، ولا يرغب عنه إلا من سفه نفسه، ولا أحسن ديناً ممن التزمه واتبعه.
اعلم بأن الدين قول وعمل، قول بالقلب واللسان، وعمل بالقلب واللسان والجوارح، فهذه أربعة أركان جامعة لأمور دين الإسلام.
الركن الأول: قول القلب
إن قول القلب هو تصديقه وإيقانه، قال الله تبارك وتعالى: "وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ" [الزمر:33-34]، وقال تعالى: "وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ" [الأنعام:75]، وقال تعالى: إ"ِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا" [الحجرات:15]، يعني: صدقوا بالله ورسوله ثم لم يشكوا في هذا التصديق، وفي حديث الدرجات العلى أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن قوم على منابر من نور يوم القيامة يغبطهم عليها الأنبياء والمرسلون، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (بلى والذي نفسي بيده! رجال آمنوا بالله، وصدقوا المرسلين)، والشاهد قوله: (وصدقوا المرسلين)، وقال تبارك وتعالى: "الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ" [البقرة:3]، أي: يصدقون بالغيب، وقال تعالى: "قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ" [البقرة:136]، وقال تعالى: "وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ" [الشورى:15]، وغير ذلك من الآيات التي فيها بيان أن من الإيمان قول القلب بالتصديق واليقين.
وفي حديث الشفاعة يقول عليه الصلاة والسلام: (يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه من الخير ما يزن شعيرة)، وفي الحديث الآخر فيقال: (انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من برة أو شعيرة من إيمان، ثم من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، ثم من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل من إيمان)، فالشاهد هنا قوله: (في قلبه).
وقال تبارك وتعالى في المكذبين: "سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ" [البقرة:6]، يعني: لا يصدقون، وقال تعالى في المرتابين الشاكين: "يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ" [آل عمران:167]، وقال فيهم: "يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ" [المائدة:41]، وقال تعالى: "إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ" [المنافقون:1] لأنهم يقولون هذا بلسانهم، أما قلوبهم فليس فيها تصديق ولا يقين: (( وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ))، أي: في قولهم: نشهد، فهم كذبوا لا يشهدون بذلك بقلوبهم، وإنما هو بألسنتهم تقية ونفاقاً ومخادعة. فهذا هو الركن الأول من الدين وهو قول بالقلب. هذه الأركان لابد من وجودها جميعاً في كل مؤمن، قول بالقلب وقول باللسان، وعمل بالقلب وعمل بالأركان.
الركن الثاني: قول اللسان
أما قول اللسان: فهو النطق بالشهادتين، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإقرار بلوازمهما، قال الله تعالى: "وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ" [القصص:53]، وقال تعالى: "وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ" [الشورى:15]، وقال: "إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ" [الزخرف:86]، وقال: "إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ" [الأحقاف:13]، وقال صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله)، وهذه الشهادة تكون باللسان.
الركن الثالث: عمل القلب
هناك فرق بين قول القلب وبين عمل القلب؛ لأن قول القلب هو التصديق واليقين، أما عمل القلب فهو العبادات القلبية التي لا تؤدى إلا بالقلب، مثل: النية، الإخلاص، المحبة، الانقياد، الإقبال على الله عز وجل، التوكل عليه، ولوازم ذلك وتوابعه، يقول تبارك وتعالى: "وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ" [الأنعام:52] عمل القلب في قوله: (( يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ))، وقال عز وجل: "وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى" [الليل:19-20]، هذا هو عمل القلب، وقال تبارك وتعالى: "إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ" [الإنسان:9]، هذه أيضاً أعمال القلب، النية والإخلاص لله، وقال تبارك وتعالى: "الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ" [الأنفال:2] فهنا ذكر من أعمال القلب وجل القلب والخوف من الله تبارك وتعالى وذلك من أركان الإيمان. وقال تعالى: "وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ" [المؤمنون:60] ومعلوم أن السيدة عائشة رضي الله عنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن هؤلاء الذين يؤتون ما آتوا فقالت: (هل هم الذين يسرقون ويزنون ويفعلون المحرمات ويشربون الخمر، فقال عليه الصلاة والسلام: لا يا ابنة الصديق ! بل هم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون، ويخافون ألا يتقبل منهم)، فهذا هو تفسير النبي عليه الصلاة والسلام لقوله تعالى: ((وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا))، يعني: من الأعمال الصالحة، ومع ذلك هم خائفون وجلون ألا يتقبل منهم؛ لقوله تعالى: "إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ" [المائدة:27]. فالشاهد هنا في قوله: ((وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ))، فالوجل والخوف من أعمال القلب. وقال عز وجل: "اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ" [الزمر:23]، وقال أيضاً: "الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ" [الرعد:28]، وقال عز وجل: "أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ" [الزمر:3]، والإخلاص عمل قلبي، وقال أيضاً: "وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ" [البينة:5]، وهذا عمل قلبي: "قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي" [الزمر:14]، والنية عمل قلبي، وقال أيضاً: "وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ" [البقرة:165]، "فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ" [المائدة:54] والحب عمل قلبي. فهناك أعمال في القلب لابد أن تؤدى، وحتى تحقق التوحيد في الأعمال القلبية ينبغي ألا توجهها إلا إلى الله تبارك وتعالى، كما أن من أعمال البدن السجود، الركوع، الصيام، الجهاد، هذه كلها من أعمال البدن، حتى توحد الله بأعمال البدن لا توجه هذه العبادات إلا إلى الله تبارك وتعالى، فلا تسجد ولا تركع إلا لله تبارك وتعالى؛ كذلك أعمال القلب ينبغي ألا توجه إلا إلى الله عز وجل، فلا تخاف إلا الله، ولا تحب إلا الله عز وجل وفي الله، ولا تتوكل إلا على الله، فإن وجهت التوكل إلى غير الله ففي هذه الحالة تكون اتخذته شريكاً مع الله تبارك وتعالى, يقول الله عز وجل: "قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ" [آل عمران:31] وقال عز وجل: "وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ" [الحجرات:7]، وقال أيضاً: "وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ" [النساء:125]، وقال: "وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى" [لقمان:22]، وقال: "فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ" [الحج:34]، وقال: "فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا" [النساء:65]، هذا الدليل واضح جداً في اشتراط عمل القلب في الإيمان، ولا يتحقق الإيمان حتى تجتمع هذه الأشياء: (( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ ))، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه). قوله: (إنما الأعمال بالنيات)، يعني: الأعمال الصالحة بالنيات الخالصة، ونحتج بالحديث على أن من يعمل عملاً مخالفاً للشرع ثم يقول: نيتي صحيحة؛ كمن يسرق ليتصدق، نقول له: لابد أن يكون العمل صالحاً، إنما الأعمال الصالحة بالنيات الخالصة، ولو عمل عملاً صالحاً يريد به غير وجه الله لا ينفعه أيضاً، فلابد من الاثنين أن يكون العمل صالحاً موافقاً للشرع، وأن يكون خالصاً يبتغى به وجه الله تبارك وتعالى، وتقدم الكلام على ما ينافي الإخلاص من الشرك الأكبر أو الشرك الأصغر. ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أحبوا الله من كل قلوبكم)، وقال صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما)، هذا أيضاً عمل قلبي، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم إني أسألك حبك، وحب من يحبك، وحب كل عمل يقربني إلى حبك)، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به)(لا يصح مرفوعا)، فهذا غاية الانقياد؛ إذ لم يكن له هوى غير ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما التوكل والخوف والرجاء والخشية والخضوع وغير ذلك من أعمال القلوب فأدلتها كثيرة جداً يطول الكلام بإحصائها واستقصائها. الشاهد: كما أن قول القلب هو بالتصديق واليقين بالحق؛ كذلك لابد أن ينضم إليه: قول اللسان بالنطق بالشهادتين.
الركن الرابع: عمل اللسان والجوارح
أما عمل اللسان فهو ما لا يؤدى إلا به، مثل: العبادات التي مناطها اللسان، كتلاوة القرآن، والأذكار من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير والدعاء والاستغفار ونحو ذلك.
أما عمل الجوارح فما لا يؤدى إلا بها، كالقيام في الصلاة والركوع والسجود، والمشي في مرضاة الله عز وجل كالخطى إلى المساجد، وإلى الحج والجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك مما يشمله حديث شعب الإيمان. قال الله عز وجل: "إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ" [فاطر:29]، هذا عمل باللسان، ويمكن أن يكون عملاً بالجوارح على اعتبار أن اللسان أحد الجوارح. "إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُور"َ [فاطر:29]، وقال تعالى: "وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ" [الكهف:27]، وقال: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا" [الأحزاب:41-42]، وقال: "وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ" [الأعراف:205]، وقال تبارك وتعالى: "وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا" [الإسراء:111]، فهذا أمر بالعمل باللسان. وقال: "الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا" [الكهف:46] وهي كما جاء في الحديث الصحيح: (خذوا جنتكم من النار، قولوا: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر؛ فإنهن يأتين يوم القيامة مقدمات ومعقبات ومجنبات -أي: من الجنبين تحيط بالإنسان ومن قدامه ومن خلفه- وهن الباقيات الصالحات)، هذا الحديث نص في أن الباقيات الصالحات هن هؤلاء الكلمات. وقال تعالى: "وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ" [البقرة:199]، وقال: "الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ" [آل عمران:191]، وقال: "وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ" [البقرة:238] والقيام من عمل جوارح، وقال: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ" [الحج:77-78]، وقال: "وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا" [الفرقان:63-64]، وقال: "أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ" [الزمر:9]، فهذه فيها أعمال القلب والجوارح. وقال تعالى: "إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ" [التوبة:111] وهذا بالجوارح: "فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ" [التوبة:111] إلى آخره، ثم قال عز وجل: "التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ" [التوبة:112]، فالآيات والأحاديث كثيرة جداً في أن أعمال الجوارح ركن من أركان الدين وداخله في مسماه.
=====================================
قضايا الإيمان والكفر (17)
أنواع الكفر المخرجة من الملة
(تابع شرح البيت
اعلم بأن الدين قول وعمل ** فاحفظه وافهم ما عليه ذا اشتمل)
إن أصل أصول الدين هو أن الإيمان قول وعمل؛ قول بالقلب وباللسان، وعمل بالقلب وبالأركان بما فيها اللسان، فإذا حقق الإنسان هذه الأمور الأربعة تحقيقاً بالغاً، وعرف ما يراد بها معرفة تامة، وفهم فهماً واضحاً، ثم أمعن النظر في أضدادها ونواقضها، تبين له أن أنواع الكفر لا تخرج عن أربعة:
- كفر جهل وتكذيب.
- كفر جحود.
- كفر عناد واستكبار.
- كفر نفاق.
وكل واحد منها يخرج من الملة بالكلية، وإن اجتمعت في شخص فظلمات بعضها فوق بعض والعياذ بالله من ذلك؛ لأنه إما أن تنتفي هذه الأمور كلها فلا يكون عنده قول القلب ولا عمله، ولا قول اللسان ولا عمل الجوارح، أو ينتفي بعضها، فإن انتفت كلها فقد اجتمعت أنواع الكفر غير النفاق، قال الله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ" [البقرة:6-7].
- كفر الجهل والتكذيب:
فإن انتفى تصديق القلب مع عدم العلم بالحق، فهذا كفر الجهل والتكذيب، قال الله تعالى: "بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ" [يونس:39]، فلما انتفى تصديق القلب مع الجهل بالحق فهذا هو كفر الجهل والتكذيب، وقال تبارك وتعالى: "أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا" [النمل:84]، كذب وجهل بالحق، فهو جمع بين التكذيب والجهل: "وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ" [النمل:83-84]
- كفر الجحود والكتمان:
فإذا كتم الحق مع العلم به وبصدقه فهذا كفر الجحود والكتمان، يعني: قلبه يعلم بالحق لكنه يكتمه ويجحده، كما قال عز وجل في فرعون وقومه: "وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ" [النمل:14]، وقال تعالى: "فَلَمَّا جَاءَهُمْ" -اليهود- "مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ" [البقرة:89]، هم يعرفون أن الرسول حق، وأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حقاً وصدقاً؛ لكنهم جحدوا واستكبروا، وقال عز وجل: "الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ" [البقرة:146-147].
- كفر النفاق:
أما إذا انتفى عمل القلب من النية والإخلاص والمحبة والإذعان مع انقياد الجوارح، فهو يصلي ويصوم ويزكي ويشهد الشهادتين؛ لكن انتفى عمل القلب، فلا نية ولا إخلاص ولا محبة ولا إذعان بالقلب، فهذا هو كفر النفاق؛ سواء وجد التصديق المطلق أو انتفى، وسواء انتفى بتكذيب أو شك، يقول عز وجل: "وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا" [البقرة:8-10] إلى قوله تبارك وتعالى: "وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" [البقرة:20].
- كفر العناد والاستكبار:
وإن انتفى عمل القلب وعمل الجوارح مع المعرفة بالقلب والاعتراف باللسان، كمن لا يوجد له عمل بالقلب ولا عمل بالجوارح؛ لكن عنده معرفة بالقلب واعتراف باللسان؛ فهذا كفر العناد والاستكبار، ككفر إبليس؛ لأن قلبه لم ينقد لأمر الله تبارك وتعالى، وانتفى عمل الجوارح؛ لأنه لم يمتثل الأمر بالسجود، مع معرفته بقلبه أن هذا الأمر بالسجود صادر من الله تبارك وتعالى، فهو يصدق أن هذا أمر الله. وكذلك كفر غالب اليهود الذين شهدوا أن الرسول حق ولم يتبعوه، أمثال حيي بن أخطب و كعب بن الأشرف وغيرهم من اليهود هو من هذا الباب، وكذا كفر من ترك الصلاة عناداً واستكباراً.
معنى قول أهل السنة: الإيمان هو التصديق
محال أن ينتفي انقياد الجوارح بالأعمال الظاهرة مع ثبوت عمل القلب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب). فمن هنا يتبين لك أن من قال من أهل السنة في تعريف الإيمان: هو التصديق، فعلى ظاهر اللغة، كما قال الله: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ [يوسف:17] فهو إنما يقصد التصديق الذي يستلزم الانقياد والإذعان لا مجرد المعرفة كما يقول المرجئة؛ كما في قوله تبارك وتعالى: "فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا" [الصافات:103-105] ومعلوم أن هذه الرؤيا كانت وحي من الله فقط، وما أطلق عليها تصديقاً حتى انضم إليها الانقياد بأن أسلم هو وولده وتله للجبين حينئذ لما انضاف إلى التصديق العمل والانقياد والإذعان، فالقلب هو ملك البدن، فإذا وجد عمل القلب بالإذعان، فلابد أن يذعن في الظاهر بأعمال الجوارح، والدليل هذا الحديث: (ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله)، يعني: إذا وجد عمل القلب من الإذعان والخضوع والانقياد والمحبة إلى غير ذلك، ينعكس ذلك على الجوارح، فهذا عكس ما يردده أغلب الناس ويسيئون تطبيق هذا الحديث بعد أن يسيئوا فهمه، فيقولون: الإيمان في القلب، وهذا الحديث حجة عليه، كما قال شيخ الإسلام: أنا ألتزم أنه لا يحتج مبطل بآية وحديث لإثبات باطله إلا وكان في نفس الآية والحديث ما يدل على نقيض ما ذهب إليه، وهذه من آيات الله أنك إذا عكست الدليل عليه تجد الحجة قائمة عليه تماماً؛ فكذلك هنا قوله: (إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله)، فالقلب يؤثر في البدن، والظاهر أيضاً يؤثر في القلب، هناك تفاعل مشترك بين الأمرين؛ فمثلاً الذي يحلق لحيته ويقول: إن الأعمال بالنيات، وإن قلبي سليم! نقول له: كذبت وخالفت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: إذا صلح القلب صلح الجسد، وانعكس على ظاهره الأعمال الصالحة سواء من إعفاء اللحية والتمسك بسنة النبي عليه الصلاة والسلام، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وسائر الأعمال الظاهرة، فهذه تكون عنواناً على سلامة هذا القلب؛ كذلك القلب السليم ينضح بهذه الأعمال الصالحة.
فالمقصود أن من قال من أهل السنة والجماعة: إن الإيمان هو التصديق؛ فإنما أراد التصديق على أساس أصل اللغة؛ لكن الإيمان في الاصطلاح هو التصديق المستلزم للانقياد.
وهذا مقياس في الظاهر والباطن ليس فقط في الظاهر، فلم يعنوا مجرد التصديق، والدليل: أن إبليس لعنه الله لم يكذِّب ولم يشك في أن الأمر له بالسجود هو من عند الله تبارك وتعالى، وإنما الذي تخلف عن إبليس هو عمل القلب وهو بالانقياد في هذا الأمر، لذا كان إباؤه كفراً واستكباراً.
كذلك اليهود كانوا يعتقدون صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يتبعوه جحوداً وعناداً، وفرعون كان يؤمن أن موسى رسول الله حقاً، والأدلة على ذلك موجودة في القرآن الكريم وهي كثيرة، منها: قوله تبارك وتعالى: "وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا" [النمل:14]، ويقول تبارك وتعالى في آخر سورة الإسراء: "وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْألْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا" [الإسراء:101]، فماذا أجاب موسى وموسى صادق مصدوق عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام؟ "قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا" [الإسراء:102]، فهذا دليل على أن فرعون كان عنده يقين ومعرفة أن هذا رسول الله حقاً وصدقاً؛ لكنه لم ينقد له.
وهناك آيات أخرى في سورة الأعراف وغيرها من السور فيها إثبات أن القوم لما كان ينزل بهم سخط الله وعذابه كانوا يهرعون إلى موسى، يقول: "يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ" [الزخرف:49]، ثم ينقضون العهد بعد ذلك كما هو معلوم في سورة الزخرف والأعراف أيضاً.
فالشاهد أن هؤلاء كانوا يعرفون صدق الرسول؛ لكن لم ينقادوا إليه، وفرعون كان يعتقد صدق موسى ولم ينقد له، بل جحد بآيات الله ظلماً وعلواً، فأين هذا التصديق من تصديق من قال الله تعالى فيه: "وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ" [الزمر:33]؟
وحتى تتمثل الأمر بوضوح؛ لأنه ربما يلتبس على الإنسان الفرق بين قول القلب وعمله، نقول: فرعون كان عنده القول بالقلب؛ وإبليس كان عنده القول بالقلب، واليهود الذين صدقوا بنبوة النبي عليه الصلاة والسلام كان عندهم القول بالقلب، لكن لم يوجد عندهم عمل القلب، وهو الانقياد والإذعان والمحبة وغير ذلك من الأعمال القلبية. إذاً: تذكر قوله عز وجل في حق فرعون وقومه: "وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا" [النمل:14]، وقارن هذا التصديق الذي كان عليه فرعون وقومه بالتصديق الذي جاء في قوله تبارك وتعالى: "وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ" [الزمر:33]، قارن أيضاً تصديق اليهود الذين قالوا: "سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا" [النساء:46]، و: "قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ" [البقرة:76]، فقارن بين هذا التصديق وتصديق الذين قالوا: "سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ" [البقرة:285]، فلابد أن نفرق بين قول القلب وبين عمل القلب، قول القلب هو التصديق واليقين، أما عمل القلب فهو الانقياد والمحبة والإذعان لما أمر الله تبارك وتعالى به، فهذا خلاصة شرح قول صاحب سلم الوصول إلى الأصول: اعلم بأن الدين قول وعمل فاحفظه وافهم ما عليه ذا اشتمل يعني: ما اشتمل عليه هذا الكلام من أن الإيمان قول وعمل، قول بالقلب وقول باللسان، وعمل بالقلب وعمل باللسان والجوارح
===================================
قضايا الإيمان والكفر (18)
مراتب الدين
(الإسلام ـ الإيمان ـ الإحسان)
قال الشيخ حافظ حكمي رحمه الله:
كفاك ما قد قاله الرسول ** إذ جاءه يسأله جبريل
على مراتب ثلاث فصله ** جاءت على جميعه مشتمله
الاسلام والإيمان والإحسان** والكل مبني على أركان
قوله: (كفاك) يعني: كفاك يا طالب الحق ما قد قاله الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم. قوله: (إذا جاءه يسأله) يعني: حين جاءه يسأله عن مراتب الدين وشرائعه، وهو جبريل عليه السلام كما في الحديث الصحيح السابق. قوله: (على مراتب ثلاث فصله) أي: بتلك الأجوبة الصريحة. قوله: (جاءت) يعني: الثلاث المراتب: الإسلام، والإيمان، والإحسان. قوله: (على جميعه) يعني: على جميع الدين مشتملة؛ ولهذا سمى النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأمور كلها بقوله: (هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم).
والكلام في قضية الإيمان يصبح رداً قوياً جداً على الذين يصفون هذه الأعمال سواء كانت أعمال القلب أو غيرها، يقول: أنتم تهتمون بأمور نظرية فلا يترتب عليها عمل، كلا. هذه عمل في الحقيقة، كما ذكرنا عمل القلب بالانقياد والإذعان، كما يقول عز وجل: "وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ" [البقرة:225]، فالقلب له كسب وعمل أيضاً.
مرتبة الإسلام
قوله: (الإسلام) أي: مفصل من مجمل المراتب، وهو بدل بعض من كل.
الاسلام والإيمان والإحسان** والكل مبني على أركان
هذه هي المرتبة الأولى كما في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن وافقه من الصحابة حينما سأل جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام.
فالإسلام لغة: الانقياد والإذعان.
وأما في الشريعة فله حالتان:
الحالة الأولى:
أن يطلق على الإفراد غير مقترن بذكر الإيمان، فهو حينئذ يراد به الدين كله أصوله وفروعه من اعتقاداته وأقواله وأفعاله، كقوله تعالى: "وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ" [آل عمران:85]، هنا أتى الإسلام مفرداً دون أن يقترن بلفظ الإيمان، فيشمل كل أمور الدين، الباطن والظاهر والأقوال والأعمال والاعتقادات، وكل شيء يدخل تحت مسمى الدين يدخل في كلمة الإسلام؛ لأنها أتت مفردة مطلقة دون أن ترتبط بلفظ الإيمان في وقت واحد: "إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ" [آل عمران:19]، ومثلها: "وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا" [المائدة:3]، فيشمل هنا كل أمور الدين، وقوله تبارك وتعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً" [البقرة:208]، السلم هنا المقصود به الإسلام، أي: التزموا بجميع أمور الدين والإسلام سواء الاعتقادات أو الأقوال أو الأعمال الباطنة أو الظاهرة، وهذه الآية من أقوى الأدلة التي نرمي بها في نحور الذين يقسمون الدين إلى أمور نظرية، ويفترون على الله حينما يسمونها تافهة ويسخرون منها وهي من أركان الإيمان؛ لأن قوله: (كافة) يعني: جميع ما يتعلق بالإسلام من الأقوال والأعمال والنيات والأحوال وغير ذلك، هذا كله مأمور بالدخول فيه سواء في ذلك العقيدة أو الفقه والعمل.
إذاً: في هذه الآية دليل ضد الذين يسخرون من أمور الفقه أو العلم، ويسخرون في ذلك من طلاب العلم، ويقولون: متى تخرجون من فقه دورة المياه؟ يسخرون من فقه الطهارة، ويسخرون من بعض العلماء أو طلاب العلم، ويقولون: علماء الحيض والنفاس، ولا يدرون أنهم بذلك يهلكون؛ لأن هذه تدخل في قوله: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً" [البقرة:208]، لا يسمى أبداً شيء من أمر الدين أو أمر به النبي عليه الصلاة والسلام أو أقره لا يمكن أن يسمى تافهاً أو سخيفاً، إنما يحمل قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله يحب معالي الأمور ويكره سفسافها) معالي الأمور مقاصد الدين، أما السفساف فهي أمور الدنيا الحقيرة؛ لكن أن تعمد إلى قضية من قضايا الدين وتسخر منها أو تقول: هذه قشور أو أمور شكلية أو مظاهر لا حاجة لنا بها، فهذا كله إعراض عن المقصود الشامل من قوله تبارك وتعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً" [البقرة:208]، أي: في كل ما يتعلق بالدين والإسلام.
ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام لما سأله معاوية بن حيدة : (ما الإسلام؟ قال: أن تقول: أسلمت وجهي لله)، إلى آخر الحديث، وحديث عمرو بن عبسة رضي الله عنه قال: (قال رجل: يا رسول الله! ما الإسلام؟ قال: أن يسلم قلبك لله عز وجل، وأن يسلم المسلمون من لسانك ويدك، قال: فأي الإسلام أفضل؟ ...)، فهنا يعتبر كدليل على أن كلمة الإسلام إذا أطلقت مفردة غير مقترنة بلفظ الإيمان فإنها تشمل كل أمور الإسلام، وكل أمور الدين، والظاهر والباطن وغير ذلك.
فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أن يسلم قلبك لله عز وجل) يدخل فيه عمل القلب وقوله: (وأن يسلم المسلمون من لسانك ويدك) هذا فيه عمل الجوارح واللسان. وقوله: (قال: فأي الإسلام أفضل؟) إذاً: الإسلام كلمة عامة، ثم يسأل عن أفضل ما يدخل في هذه الكلمة الشاملة الإسلام، قال: (فأي الإسلام أفضل؟ قال: الإيمان)، ففي هذا الحديث أطلقت كلمة الإسلام ويدخل في معناها أيضاً الإيمان بهذا النص، (قال: وما الإيمان؟ قال: تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت)، فهذا دليل واضح على أن كلمة الإسلام إذا أطلقت وأفردت دون أن تقيد بالإيمان تشمل الظاهر والباطن.
فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الإيمان جزءاً من الإسلام وهو أفضله، وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا أسلم العبد فحسن إسلامه كتب الله له كل حسنة كان أزلفها، ومحيت عنه كل سيئة كان أزلفها)، فالانقياد ظاهراً بدون إيمان لا يكون حسن إسلام، بل هو النفاق، فكيف تكتب له حسنات أو تمحى عنه سيئات؟ فقوله هنا: (حسن إسلامه) يشمل كل أمور الإسلام باطناً وظاهراً، أي: حسن باطنه وظاهره، أما إذا حسن الظاهر فقط فهذا شأن المنافقين الذين كانوا يخرجون مع المسلمين في الجهاد، وكانوا يصومون ويصلون الجماعة ويحجون ويفعلون كل هذه الأشياء، فهو حسن إسلام في الظاهر وانقياد ظاهري، ولكن تخلف الانقياد الباطني الذي هو عمل القلب، فلا يمكن أن يكون بالمقصود من قوله: (فحسن إسلامه) صلاح الظاهر فقط، بل لابد أن يكون في ظل هذا الحديث اشتراط حسن الإيمان القلبي والانقياد الباطني، فهذه الحالة الأولى من حالة ورود لفظة الإسلام.
الحالة الثانية:
أن يطلق الإسلام مقترناً بالإيمان، فهو حينئذ يراد به الأقوال والأعمال الظاهرة فقط، إذا جاءك نص قرن فيه بين الإسلام والإيمان، ينطبق عليه قاعدة: إذا اجتمعا في لفظ واحد افترقا في المعنى لكن إذا افترقا اجتمعا.
إذاً: الحالة الثانية: أن يطلق الإسلام مقترناً بالاعتقاد فهو حينئذ يراد به الأعمال والأقوال الظاهرة، كقوله تعالى: "قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا" [الحجرات:14]، هنا اقترن الإيمان بالإسلام.
وربما يقول قائل: حديث عمرو بن عبسة أليس فيه إدخال الإسلام بالإيمان؟ نقول: نعم؛ ولكن جاءت قرينة تدل على أن الإسلام في أول الحديث المقصود به كل أمور الدين؛ لأنه نص على أن الإيمان جزء من الإسلام، والإسلام يشمل هذا ويشمل ما عداه.
وكقوله صلى الله عليه وآله وسلم لما قال له سعد رضي الله عنه: (ما لك عن فلان، فوالله إني لأراه مؤمناً؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أو مسلماً)، يعني: هلا أطلقت عليه لفظة الإسلام لا لفظة الإيمان؟ لأنك تخبر عن علمك أنت، فعلمك يكون حسب الظاهر، فلا تقل: مؤمناً، لكن قل: مسلماً؛ لأنك لم تطلع على إيمانه، وإنما اطلعت على إسلامه من الأعمال الظاهرة، فهنا قوله: (إني أراه مؤمناً)، قصد بالإيمان الأمر الباطن، والرسول عليه الصلاة والسلام قصد بالإسلام الأمر الظاهر. وفي رواية النسائي : (لا تقل: مؤمناً، وقل: مسلماً)، وكحديث عمر أيضاً الذي سقناه في بداية الكلام، قال: (ما الإسلام؟ قال: أن تشهد أن لا إله إلا الله -كلها أعمال ظاهرة- وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً، ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن -هذه أعمال باطنة بالقلب- بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره)، إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث.
مرتبة الإيمان
الإيمان لغة: التصديق (الجازم)، ودليل ذلك قوله تعالى: "وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ" [يوسف:17]، يعني: ما أنت بمصدق لنا.
أما في الشريعة فللإيمان أيضاً حالتان:
الحالة الأولى:
أن يطلق على الإفراد غير مقترن بذكر الإسلام، فحينئذ يراد به الدين كله، كقوله عز وجل في الذين آمنوا: "اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّور"ِ [البقرة:257]، (فآمنوا) هنا تشمل الظاهر والباطن. وقوله تبارك وتعالى: "أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ" [الحديد:16]، وقوله عز وجل: "وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ" [آل عمران:122]، تشمل أيضاً الظاهر والباطن، "وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ" [المائدة:23]. وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة)، هنا تشمل الظاهر والباطن؛ لأنها مفردة غير مقيدة بالإسلام؛ ولهذا حصر الله الإيمان فيمن التزم الدين كله باطناً وظاهراً، في قول الله عز وجل: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ" [الأنفال:2]، يعني: لا يوجد الإيمان إلا في هؤلاء؛ فانظر إلى صفتهم وأفعالهم، وسوف تجد أفعالهم وأعمالهم باطنة وظاهرة: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ" [الأنفال:2] هذه باطنة: "وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا" [الأنفال:2]، أيضاً باطنة: "وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ" [الأنفال:2]، أعمال باطنة بالقلب: "الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ" [الأنفال:3]، ظاهرة: "وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال:4] فأطلق الإيمان وحصره فيمن جمع بين الظاهر والباطن، وقال عز وجل: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا" [الحجرات:15]، هذه أعمال قلبية: "وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ" [الحجرات:15]، (في سبيل الله)، عمل قلبي بالنية؛ لأنه يريد إعلاء كلمة الله. وقال عز وجل: إ"ِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" [السجدة:15-17]، فسرهم بمن اتصف بذلك كله أيضاً في قوله عز وجل: "ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" [البقرة:2-5]، ووصفهم أيضاً بالإيمان في قوله: "وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ" [آل عمران:133] إلى آخر الآيات، وقال عز وجل: "وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ" [الأعراف:156]، إلى آخر الآيات. ثم قال جل وعلا: "فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" [الأعراف:157]، وقال أيضاً -وهي من أوضح الأدلة في ذلك-: "قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ" [المؤمنون:1]، الذين من صفاتهم: "الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" [المؤمنون:2-11]، وقال أيضاً: "هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ" [النمل:2-3]، وغير ذلك من الآيات.
بل أتى أيضاً نصاً صريحاً جداً فسر الإيمان بهذه الأعمال كلها، كما في قوله: "لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ" [البقرة:177]. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن أبا ذر رضي الله عنه سأله فقال له: (ما الإيمان؟ فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ))[البقرة:177] إلى آخر الآية)، فأتى بهذه الآية جواباً عن سؤاله عن الإيمان، ثم قال له أيضاً: (ما الإيمان؟ فتلاها عليه، فقال: إذا عملت حسنة أحبها قلبك، وإذا عملت سيئة أبغضها قلبك)، يعني: هذه أيضاً علامة من علامات الإيمان، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إذا سرتك حسنتك وساءتك سيئتك فأنت مؤمن)، هذه علامة من علامات الإيمان. وأيضاً فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان بالباطن والظاهر، كما في حديث وفد عبد القيس في الصحيحين وغيرهما: (آمركم بالإيمان بالله وحده، قال: أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله أعلم)، هذه عادة الصحابة في الجواب حينما يسألون أن يقولوا: الله ورسوله أعلم، (قال: أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأن تؤدوا من المغنم الخمس)، فهذه أعمال ظاهرة دخلت في مسمى الإيمان، وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قيام رمضان إيماناً واحتساباً من الإيمان، وكذا قيام ليلة القدر، وأداء الأمانة، والجهاد والحج، واتباع الجنائز، وغير ذلك، يقول عليه الصلاة والسلام: (الإيمان بضع وسبعون شعبة)، تماماً مثل كلمة الإسلام في قوله: "إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ" [آل عمران:19]، تشمل الظاهر والباطن؛ لأنها غير مقترنة بالإسلام وقد أتت مفردة: (الإيمان بضع وسبعون شعبة؛ أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)، وهذه الشعب المذكورة قد جاءت في القرآن والسنة في مواضع متفرقة، منها ما هو من قول القلب، ومنها ما هو من عمل القلب، ومنها ما هو من قول اللسان، ومنها ما هو من عمل اللسان أو الجوارح، ولما كانت الصلاة جامعة لقول القلب وعمل القلب، وقول اللسان وعمل اللسان وعمل الجوارح، سماها الله تعالى إيماناً، كما في قوله تبارك وتعالى: "وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ" [البقرة:143]؛ لأن الصلاة مشتملة على جميع أنواع الإيمان، فقد روى سعيد بن منصور ، عن عبد الرحمن بن يزيد قال: كنا عند عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فذكرنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وما سبقونا به، فقال عبد الله (إن أمر محمد صلى الله عليه وسلم كان بيناً لمن رآه، والذي لا إله غيره ما آمن أحد قط إيماناً أفضل من إيمان بالغيب، ثم قرأ: ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة:2-3])، فهنا حمل معناها على الباطن "ويقيمون الصلوة ومما رزقناهم ينفقون" على الأعمال الظاهرة.............
الحالة الثانية:
أَنَّ يُطْلَقَ الإِيمَانُ مَقْرُونًا بِالإِسْلامِ, وَحِينَئِذٍ يُفَسَّرُ بِالِاعْتِقَادَاتِ الْبَاطِنَةِ كَمَا فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ هَذَا وَمَا فِي مَعْنَاهُ, وَكَمَا فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: "وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ" [النساء: 57] في غيرما مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ, وَكَمَا فِي قَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي دُعَاءِ الْجِنَازَةِ: "اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الإِسْلامِ, وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفِّهِ عَلَى الإِيمَانِ" ذَلِكَ أَنَّ الأَعْمَالَ بِالْجَوَارِحِ وَإِنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْهَا فِي الْحَيَاةِ, فَأَمَّا عِنْدُ الْمَوْتِ فَلا يَبْقَى غَيْرُ قَوْلِ الْقَلْبِ وَعَمَلِهِ. وَكَحَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ أَحْمَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ, وَالإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ".
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إِذَا أُفْرِدَ كُلٌّ مِنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ بِالذِّكْرِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا حِينَئِذٍ, بَلْ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى انْفِرَادِهِ يَشْمَلُ الدِّينَ كُلَّهُ, وَإِنْ فُرِّقَ بَيْنَ الِاسْمَيْنِ كَانَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بِمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْجَلِيلِ. وَالْمَجْمُوعُ مَعَ الْإِحْسَانِ هُوَ الدِّينُ كَمَا سَمَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ كُلَّهُ دِينًا, وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَبَيْنَ الأَحَادِيثِ الَّتِي فِيهَا تَفْسِيرُ الإِيمَانِ بِالإِسْلامِ وَالإِسْلامِ بِالإِيمَانِ, وَبِذَلِكَ جمع بينه وبينها أَهْلُ الْعِلْمِ.
==============================
قضايا الإيمان والكفر (19)
إبطال مذهب المرجئة في الإيمان 
... يقول الزهري رحمه الله تعالى: ما ابتدعت في الإسلام بدعة أضر على الملة من هذه.
يشير إلى أهل الإرجاء، وسئل إبراهيم : ما ترى في رأي المرجئة؟ فقال: أوه ـ بمعنى أتضجر أو أتوجع- لفقوا قولاً فأنا أخافهم على الأمة، والشر من أمرهم كثير، فإياك وإياهم! وقال إبراهيم : المرجئة أخوف عندي على الإسلام من الأزارقة.
المرجئة أخوف عندي على الإسلام إذا كان هناك عدد يوازيهم من الأزارقة -والأزارقة: فرقة من فرق الخوارج- فالمرجئة يكونون أشد خطراً منهم.
وقال أيوب : قال لي سعيد بن جبير : رأيتك مع طلق ! قلت: بلى، فما له؟! قال: لا تجالسه فإنه مرجئ، قال أيوب : وما شاورته في ذلك.
ويحق للمسلم إذا رأى من أخيه ما يكره أن يأمره وينهاه، وهذا موقف من مواقف السلف في البراءة من أهل البدع ومجانبتهم، فضلاً عن الجلوس معهم.
وكان يحيى و قتادة يقولان: ليس من الأهواء شيء أخوف عندهم على الأمة من الإرجاء.
وذكر عند الضحاك بن مزاحم قول من قال: من قال لا إله إلا الله دخل الجنة، يعني: بعض المرجئة يستدلون بمثل هذه النصوص على أن الإيمان هو الإقرار باللسان فقط دون عقد القلب، فقال الضحاك بن مزاحم : هذا قبل أن تحد الحدود وتنزل الفرائض، لكن بعدما حدت الحدود، ونزلت الفرائض صارت هذه داخلة في مسمى الإيمان الذي ينجي صاحبه، فالله تبارك وتعالى أمر المؤمنين بعد أن صدقوا في إيمانهم بالصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد.. إلى آخره، فمن زعم أن الله فرض عليهم ما ذكرنا، ولم يرد منهم العمل، ورضي منهم بالقول، فقد خالف الله عز وجل وخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يعني: أن الله عز وجل أمرهم أولاً بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ثم بعد ما امتثلوا لذلك، واستقر الإيمان في قلوبهم أمرهم بالشرائع .. بالصلاة والصيام والزكاة والحج، هل يأمرهم لمجرد الأمر فقط أم أن هذا الأمر مطلوب منهم الامتثال له؟
إذاً: الله عز وجل يريد منهم الامتثال والعمل، وتطبيق الأوامر التي أمرهم بها، فهؤلاء المرجئة مقتضى كلامهم أن الله أمرهم بهذه الأعمال ولم يلزمهم أن يعملوها، وهذا فيه مخالفة لأمر الله وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
... قال تعالى: "اليَومَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً" [المائدة:3]، معنى كلمة ( َأَتْمَمْتُ ): أنه كان ينزل شيئاً بعد شيء حتى اكتمل الدين في هذه الصورة النهائية، وقال صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت).
فجمع إلى الشهادتين في نفس القوة أركان البناء، وأعمدة الإسلام الأربعة الأخرى غير الشهادتين، ولا شك أنها أعمدة يقوم بها الدين، فمن ضيعها فقد ضيع الدين.
أما من قال: إن الإيمان مجرد المعرفة، والتصديق بأن هناك إلهاً وأن الله موجود فيلزمه أن إبليس مؤمن. ويتصور الناس أن الملحد هو الذي يقول: لا إله، فهذا غير صحيح؛ لا من حيث الشرع، ولا من حيث اللغة، فالإلحاد: هو الميل عن القصد، فأي شخص منحرف في عقيدته أو سلوكه يوصف بالإلحاد.
فيلزم مما يزعمونه من أن الإيمان هو مجرد المعرفة: أن إبليس كان مؤمناً؛ لأنه كان يقر بوجود الله، وعرف ربه تبارك وتعالى؛ لأنه قال: "رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي" [الحجر:39]، وقال: "قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ" [الحجر:36]، كذلك يلزم من ذلك أن اليهود مؤمنون، فإن الله تبارك وتعالى قال في حقهم: "يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ" [البقرة:146]، وقال تبارك وتعالى أيضاً: "وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ" [الأنعام:33]. ثم أليس الفرق بين الإسلام والكفر هو العمل؟! أما مذهب أهل الإرجاء واعتقادهم أن الإيمان هو مجرد الإقرار باللسان أو المعرفة، فيترتب على ذلك أن المرجئ يعتقد ما يأتي:
أولاً: أن إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل.
ثانياً: أنه مؤمن عند الله حقيقة.
ثالثاً: أنه مؤمن مستكمل الإيمان.
رابعاً: أنه مؤمن حقاً.
ولا يقولون بتفاضل أهل الإيمان فيه؛ لأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، ولا يكون الرجل أقوى إيماناً من الآخر، بل إيمان أقل واحد من المسلمين مثل إيمان جبريل وميكائيل ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
كذلك يقولون: الشخص المدمن للخمر الذي لا يصحو من الخمر والسكر إيمانه تماماً مثل إيمان جبريل وميكائيل. كذلك يقولون: من قال: لا إله إلا الله، لم تضره الكبائر أن يعملها. فيقولون: كما لا ينفع مع الكفر طاعة كذلك لا تضر مع الإيمان معصية، والإيمان في نظرهم هو مجرد الإقرار أو المعرفة، فيقولون: من قال لا إله إلا الله لم تضره الكبائر أن يعملها، ولا الفواحش أن يرتكبها، وأن المرجئ البار التقي الذي لا يباشر من ذلك شيئاً والفاجر يكونان سواءً.
وهذا واضح مصادمته للقرآن، فهو من المنكرات العظيمة، يقول الله عز وجل: "أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ" [الجاثية:21]، هذه الآية يسميها السلف: مبكاة العابدين؛ لأنها كانت تبكي العابدين كثيراً، وقال عز وجل: "أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّار" [ص:28]، وتتفاضل الطائفتان من المؤمنين في الأعمال الصالحة درجات، ونفس أهل الإيمان هم أنفسهم درجات، كما قال الله عز وجل: "هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ" [آل عمران:163]. إذا كان أهل الإيمان أنفسهم فيما بينهم متفاوتون فما بالك بأهل الطاعة والمعصية الذين يكون التمايز بينهم أشد؟! فأهل الإيمان أنفسهم متفاوتون في هذه الصلاة، ولعلهم جميعاً واقفون في صف واحد، وفي مسجد واحد، وراء إمام واحد، وذلك لتفاوت أحوال قلوبهم، يقول الله تبارك وتعالى: "لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى" [الحديد:10]. فهذا مجمل ما يئول إليه كلام المرجئة
======================================
قضايا الإيمان والكفر (20)
الإيمان يزيد وينقص 
من الأصول المهمة جداً عند أهل السنة والجماعة المتعلقة بقضايا الإيمان: أن الإيمان يزيد وينقص. يقول الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله:
إيماننا يزيد بالطاعات** ونقصه يكون بالزلات
هذه هي المسألة الأولى من المسائل الستة التي ذكرها الشيخ حافظ الحكمي في معارج القبول في الجزء الثاني، وهي: أن الإيمان يزيد وينقص، ولهذا ترجم الإمام البخاري رحمه الله في كتاب الإيمان: باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم بني الإسلام على خمس، وهو قول وفعل يزيد وينقص، قال الله تعالى: "لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ" [الفتح:4]، ...
الداء الذي يشكو منه كثير من الناس، يشكون من نقصان الإيمان في قلوبهم، ونقصان اليقين، حتى التصديق في حد ذاته واليقين الذي هو عمل من أعمال القلب.
هذا أيضاً يزيد بكثرة التأمل والتفكر في خلق الله تبارك وتعالى وفي آياته، ألم تر إلى إبراهيم عليه السلام: هل كان يشك أن الله تبارك وتعالى قادر على أن يحيي الموتى؟ لا، وبلا شك أن إبراهيم عليه السلام كان موقناً بذلك "وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى" [البقرة:260]، أي: أنا مؤمن ومصدق بذلك عن علم ويقين، فهو يريد حق اليقين...؛ لأن العلم درجات، فهناك: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين... إذا سمعت بأن هناك كعبة في مكة المكرمة، وكنت لا تتردد في ذلك أبداً في التصديق بهذا الخبر، فهذا علم اليقين، فإذا ذهبت هناك ورأيتها فهذا عين اليقين، فإذا لمستها فهذا حق اليقين، فلذلك لما قال له: "أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي" [البقرة:260]، إذاً: اليقين يزداد ويقوى بزيادة التدبر، ورؤية آلاء الله عز وجل، وإعمال الفكر في خلق الله تبارك وتعالى، فالإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي.
كذلك الكفار يقول تعالى: "إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ" [التوبة:37]، فالكافر يزداد كفراً على كفره، ويزداد ظلمات فوق الظلمات.....
وقال الإمام الترمذي رحمه الله تعالى: باب في استكمال الإيمان والزيادة والنقصان، وساق حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وألطفهم بأهله) . فانظر إلى كلمة: (أكمل)، فهذا دليل أيضاً على أن الإيمان يزيد ويكتمل، وقال صلى الله عليه وسلم: (يا معشر النساء! تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار). والشاهد: قوله في آخر الحديث: (ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذوي الألباب وذوي الرأي منكن)..... ناقصات العقل والدين، ناقصات العقل المقصود به: شهادة المرأة، فهي بنصف شهادة الرجل، أما في الدين: فإنها إذا حاضت لا تصوم ولا تصلي، في حين أن الرجل يصوم ويصلي.
المقصود: أن كل مرأة لا تؤدي هذه الفرائض بسبب الحيض، فإن ذلك يعد نقصاناً في دينها، فهذا أيضاً يثبت هذه القاعدة.
وفي الحديث الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأدناها إماطة الأذى عن الطريق، وأعلاها قول لا إله إلا الله).. أيضاً الإمام النسائي حينما ترجم للحديث قال: باب زيادة الإيمان.
وذكر في باب زيادة الإيمان حديث الشفاعة؛ لأن حديث الشفاعة في حد ذاته بمنطوقه يدل على تفاضل أهل الإيمان فيه، فمنهم من يدخل الجنة مع السابقين، ومنهم من يكون أقل، ومنهم من يدخل النار، ثم يخرج من بقي في قلبه مثقال حبة من إيمان من أهل التوحيد؛ فهذا كله يدل على أن أهل الإيمان يتفاضلون فيه، أما الزيادة والنقص فدلالته عليها مفهوماً لا منطوقاً، يعني: الزيادة ثابتة بهذه الأدلة، أما النقص... فبعض العلماء يرى أن النقص مأخوذ من هذه الأدلة عن طريق المفهوم لا عن طريق المنطوق، والمنطوق: هو اللفظ الوارد في الحديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير). أما المفهوم: (لا يؤمن أحدكم حتى يكره لأخيه ما يكره لنفسه). فهذه الأدلة فيها أن الإيمان يزيد، وكل ما كان قابلاً للزيادة فهو قابل للنقصان، فبعض الناس كان يحتج بالأحاديث الواردة في عقوبة من اقتنى كلباً لغير صيد أو ماشية، فيقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من اقتنى كلباً إلا كلب ماشية أو صيد نقص من عمله كل يوم قيراطان)، فكل يوم ينقص من أجره قيراطان....
يقول النبي عليه الصلاة والسلام في بعض الأحاديث: (رأيت الناس وعليهم قمص منها ما يبلغ الثدي) إلى آخره، فهذا يفهم منه تفاوت الناس في الإيمان، حتى قال: (وعرض علي عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعليه قميص يجره، قالوا: فما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: الدين)، يعني: قوته وشدته في دينه، رضي الله تبارك وتعالى عنه. ويقول الله تبارك وتعالى: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً" [المائدة:3]،....ً استدل بها الإمام مسلم بن الحجاج وذكر بسنده عن حنظلة الأسيدي وكان من كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: لقيني أبو بكر رضي الله عنه، فقال: كيف أنت يا حنظلة ؟ وكان الصحابة رضي الله عنهم إذا لقي بعضهم بعضاً يطمئنون على أحوالهم الإيمانية، كيف حالك مع الله؟ أنت في ازدياد أم في نقصان؟ فهذا هو الذي ينبغي أن يشغل المسلمين.
=====================================
ساعدوا على النشر
جزاكم الله خيرا
بدأنا بفضل الله في اختصار بسيط لسلسة قضايا الإيمان والكفر لفضيلة الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم ونشرنا إلى الآن عشرين جزءا على فترات متفرقة نسأل الله أن ينفع بها وأن يعين على إتمامها نظرا لخطورتها في الفترة الحالية التي تتداخل فيها الأفكار وتترى الشبه، مع الخطورة البالغة والزائدة لمرض التكفير الذي يفتك بالمجتمع وقد أطل علينا بوجهه القبيح، ونسأل الله أن يجعل هذا العمل جزء من العلاج؛ حيث إن مجتمع الفيس بوك مفتوح على مصراعية وكل فكرة فيه من الممكن أن تلقى رواجا سريعا نظرا لضعف النظر والتعلم لهذه القضايا وننتظر نصائحكم وتعليقاتكم في رسائل خاصة .
قضايا الإيمان والكفر (1)
أمثلة لنصوص الكفر غير المخرج من الملة
https://www.facebook.com/photo.php?fbid=284392015033105&set=a.284389618366678.1073741828.284339741704999&type=1&relevant_count=1
قضايا الإيمان والكفر(2)
ضابط الإيمان والكفر 1
https://www.facebook.com/photo.php?fbid=284635191675454&set=a.284389618366678.1073741828.284339741704999&type=1&relevant_count=1
قضايا الإيمان والكفر (3)
ضابط الإيمان والكفر 2
https://www.facebook.com/photo.php?fbid=284637278341912&set=a.284389618366678.1073741828.284339741704999&type=1&relevant_count=1
قضايا الإيمان والكفر (4)
شعب الإيمان والكفر وأنواعهما
https://www.facebook.com/photo.php?fbid=284653241673649&set=a.284389618366678.1073741828.284339741704999&type=1&relevant_count=1
قضايا الإيمان والكفر (5)
قول وعمل اللسان والقلب
https://www.facebook.com/photo.php?fbid=288025231336450&set=a.284389618366678.1073741828.284339741704999&type=1&relevant_count=1
قضايا الإيمان والكفر (6)
أنواع الكفر
https://www.facebook.com/photo.php?fbid=285793944892912&set=a.284389618366678.1073741828.284339741704999&type=1&relevant_count=1
قضايا الإيمان والكفر (7)
قاعدة أهل السنة والجماعة في تكفير المعين
https://www.facebook.com/photo.php?fbid=285798004892506&set=a.284389618366678.1073741828.284339741704999&type=1&relevant_count=1
قضايا الإيمان والكفر (8)
قول أهل السنة في أهل المعاصي
https://www.facebook.com/photo.php?fbid=286404721498501&set=a.284389618366678.1073741828.284339741704999&type=1&relevant_count=1
قضايا الإيمان والكفر (9)
أصل أهل السنة في اجتماع الكفر والإيمان في الشخص
https://www.facebook.com/photo.php?fbid=286617258143914&set=a.284389618366678.1073741828.284339741704999&type=1&relevant_count=1
قضايا الإيمان والكفر (10)
التكفير وخطورته
نشوء ظاهرة التكفير وأفكارها
أسباب ظاهرة التكفير ومبرراتها
محاذير
https://www.facebook.com/photo.php?fbid=287737658031874&set=a.284389618366678.1073741828.284339741704999&type=1&relevant_count=1
قضايا الإيمان والكفر (11)
أهمية بيان خطأ التكفير
(شبهة خدمة مصالح أعداء الدعوة بعرض هذا الموضوع)
https://www.facebook.com/photo.php?fbid=289092124563094&set=a.284389618366678.1073741828.284339741704999&type=1&relevant_count=1
قضايا الإيمان والكفر (12)
لقاء مع شباب من جماعة التكفير
https://www.facebook.com/photo.php?fbid=289861654486141&set=a.284389618366678.1073741828.284339741704999&type=1&relevant_count=1
قضايا الإيمان والكفر (13)
الجذور التاريخية لفكر التكفير (الشيعة والخوارج)
https://www.facebook.com/photo.php?fbid=290384421100531&set=a.284389618366678.1073741828.284339741704999&type=1&relevant_count=1
قضايا الإيمان والكفر (14)
أسباب التكفير في العصر الحاضر
https://www.facebook.com/photo.php?fbid=291147517690888&set=a.284389618366678.1073741828.284339741704999&type=1&relevant_count=1
قضايا الإيمان والكفر(15)
أصول أهل السنة والجماعة في الإيمان والكفر:
https://www.facebook.com/photo.php?fbid=292031034269203&set=a.284389618366678.1073741828.284339741704999&type=1&relevant_count=1
قضايا الإيمان والكفر (16)
(الإيمان عند أهل السنة)
الأركان الجامعة للدين
https://www.facebook.com/photo.php?fbid=292853010853672&set=a.284389618366678.1073741828.284339741704999&type=1&relevant_count=1
قضايا الإيمان والكفر (17)
أنواع الكفر المخرجة من الملة
https://www.facebook.com/photo.php?fbid=293811727424467&set=a.284389618366678.1073741828.284339741704999&type=1&relevant_count=1
قضايا الإيمان والكفر (18)
مراتب الدين(الإسلام ـ الإيمان ـ الإحسان)
https://www.facebook.com/photo.php?fbid=294858253986481&set=a.284389618366678.1073741828.284339741704999&type=1&relevant_count=1
قضايا الإيمان والكفر (19)
إبطال مذهب المرجئة في الإيمان
https://www.facebook.com/photo.php?fbid=295801307225509&set=a.284389618366678.1073741828.284339741704999&type=1&relevant_count=1
قضايا الإيمان والكفر (20)
الإيمان يزيد وينقص
https://www.facebook.com/photo.php?fbid=295801570558816&set=a.284389618366678.1073741828.284339741704999&type=1&relevant_count=1
============================
قضايا الإيمان والكفر(21)
الاستثناء في الإيمان:
الاستثناء في الإيمان هو أحد المسائل التي أخذ فيها المبتدعة بجانب واحد من الأدلة وأغفلوا الجانب الآخر فضلوا، ووفق الله تعالى أهل السنة والجماعة إلى الأخذ بجميع أطراف النصوص فاهتدوا، فقد ذهبوا إلى جواز إلى جواز الاستثناء في الإيمان باعتبار وعدم جوازه باعتبار آخر. ثم إن أهل الإيمان متفاوتون فيه، وبحسب هذا التفاوت يكون نعيم الجنة، وعلو الدرجات فيها.
وهذه القضية أقحمت إقحاماً في قضايا الكفر والإيمان....، وإن كانت ليست من صلب قضايا الإيمان لكن لها تعلق بما سبق أن ذكرناه في قضية الإيمان ومركبات الإيمان.
ونعرض أولاً لقول الإمام أبي بكر الآجري رحمه الله تعالى في كتاب الشريعة حيث قال:
باب ذكر الاستثناء في الإيمان من غير شك فيه:
يعني: أنه يجوز أن تستثني في الإيمان دون أن تقصد بهذا الاستثناء الشك، فإذا قيل لك: هل أنت مؤمن؟ فلك أن تقول: أنا مؤمن إن شاء الله، ولا تقصد بكلمة: (إن شاء الله) الشك والريب؛ لأن الريب ينافي الإيمان فمن شروط لا إله إلا الله: اليقين المنافي للشك، قال الله عز وجل: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا" [الحجرات:15]، فلا يجوز الشك في الإيمان...
فمن صفة أهل الحق كما يقول الآجري : الاستثناء في الإيمان لا على جهة الشك، ولكن من أجل خوف التزكية للنفس بالاستكمال للإيمان، فالإنسان لا يدري أهو ممن يستحق حقيقة الإيمان أم لا، فيقول: نعم أنا مؤمن، أو يقول: أنا مؤمن إن شاء الله دون أن يقصد بذلك تزكية نفسه.
وقد ذكرنا: أن الإيمان يتركب من تصديق بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالجوارح بما فيها اللسان، فأنت حينما تقول: أنا مؤمن إن شاء الله، فهذا الاستثناء لا يمكن أبداً أن يدخل في تصديق القلب ولا في قول اللسان، وإنما يكون الاستثناء فيما يتعلق بعمل الجوارح الأعمال الموجبة لحقيقة الإيمان ـ أي كماله ـ.
فلا يمكن أبداً أن يصح الإيمان من رجل يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، ويقصد التصديق بالقلب، فهذا لا يدخله استثناء، بل لابد فيه من اليقين الراسخ المنافي تماماً للريب وللشك.
وكذلك لا يمكن أن تكون قاصداً بقولك: (إن شاء الله) النطق باللسان، لكن قولك أنا مؤمن إن شاء الله، يكون فيما يتعلق بالجزء الثالث وهو عمل الجوارح.... الذي يصح أن تستثني فيه.
والناس عند السلف على الظاهر مؤمنون يتوارثون ويتناكحون؛ لأن ظاهر الناس في حياتهم في المجتمع الإسلامي أنهم مؤمنون مسلمون، وبهذا الإيمان يتوارثون، وإلا لو لم يكونوا مؤمنين لما ترتب على ذلك حصول الميراث بين المسلم وقريبه المسلم. وبه يتناكحون أيضاً .. وبه تجري أحكام ملة الإسلام، ولكن الاستثناء .. إنما ينصرف إلى الأعمال التي توجب حقيقة الإيمان، وليس المقصود بالاستثناء ما في القلب، ولا الذي هو قول باللسان، إنما الاستثناء يكون في أعمال الجوارح، وهو عبارة عن مخافة واحتياط فقط، ولا يمكن أبداً أن يكون على الشك؛ نعوذ بالله من الشك في الإيمان.
أما الأدلة على أن الاستثناء يكون بغير شك فمنها:
قوله تبارك وتعالى: "لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ" [الفتح:27]، فهل يمكن أن نقول: إن كلمة إِنْ شَاءَ اللَّهُ هنا على الشك؟ الجواب: هذا لا يمكن؛ لأن هذه بشارة من الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، فالله علم أنهم داخلون الحرم الشريف آمنين، فهذا دليل على أن الاستثناء يكون بغير شك، وليس شرطاً أن تنصرف كلمة: (إن شاء الله) إلى الشك كما في هذه الآية.
كذلك لما دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم المقبرة ودعا للمؤمنين ختم دعاءه بقوله: (وإنا إن شاء الله بكم لاحقون)، فهل هذا على الشك؟ الجواب: كلا....
وروي أن رجلاً قال عند ابن مسعود رضي الله عنه: أنا مؤمن، فقال ابن مسعود رضي الله عنه: أفأنت من أهل الجنة؟! فقال: أرجو.. فقال ابن مسعود : أفلا وكلت الأولى كما وكلت الأخرى؟ أي: كما أنك لم تجزم في الأخيرة بأنك من أهل الجنة، ووكلت ذلك إلى علم الله، كذلك في الدنيا أيضاً لا تزكي نفسك، ولا تجزم بأنك مستحق للجنة.
أيضاً: في سؤال الملكين في القبر جاء في الحديث أنهما يقولان للمؤمن: (على اليقين كنت، وعليه مت، وعليه تبعث إن شاء الله تعالى)؛ فإن كان هذا المؤمن مات على اليقين وعلى الإيمان، فلا يمكن أن يكون المقصود من قول الملكين: (إن شاء الله) الشك؛ لأن الأعمال بالخواتيم، فهذا نص على أنه مات على اليقين، ويقال للكافر: (على شك كنت، وعليه مت، وعليه تبعث إن شاء الله)، فقالا: إن شاء الله، لا على سبيل الشك.
وقال الفضل بن زياد : سمعت أبا عبد الله - يعني: الإمام أحمد رحمه الله يعجبه الاستثناء في الإيمان. أي: يعجبه أن الرجل إذا سئل: أنت مؤمن؟ أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، فقال له رجل: إنما الناس رجلان: مؤمن وكافر؟ فقال أبو عبد الله : فأين قوله تعالى: "وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ" [التوبة:106]؟ يعني: ماذا تقول في هذا؟ وهذه الآية في سورة التوبة في بعض المؤمنين كما هو معلوم.
وقال الفضل : سمعت أبا عبد الله يقول: سمعت يحيى بن سعيد يقول: ما أدركت أحداً إلا على الاستثناء. يعني: ما أدركت أحداً من الأئمة السابقين من أئمة السلف إلا على الاستثناء في الإيمان، وكأن أحدهم كان إذا سئل يقول: أنا مؤمن إن شاء الله.
(السؤال بهل أنت مؤمن؟: بدعة):
قال الأوزاعي في الرجل سئل: أمؤمن أنت؟ فقال: إن المسألة عما تسأل بدعة، والشهادة به تعمق لم نكلفه في ديننا، ولم يشرعه نبينا، ليس لمن يسأل عن ذلك فيه إمام، القول به جدل، والمنازعة فيه حدث، ولعمري ما شهادتك لنفسك بالتي توجب لك تلك الحقيقة إن لم يكن كذلك، ولا تركك الشهادة لنفسك بالتي تخرجك من الإيمان إن كنت كذلك، وإن الذي سألك عن إيمانك ليس يشك في ذلك منك، ولكنه يريد أن ينازع الله عز وجل علمه في ذلك، حين يزعم أن علمه وعلم الله عز وجل في ذلك سواء، فاصبر نفسك على السنة، وقف حيث وقف القوم، وقل فيما قالوا، وكف عما كفوا عنه، واسلك سبيل سلفك الصالح، فإنه يسعك ما وسعهم، وقد كان أهل الشام في غفلة من هذه البدعة حتى قذفها إليهم بعض أهل العراق ممن دخل في تلك البدعة بعد ما رد عليهم فقهاؤهم وعلماؤهم، فأشربتها قلوب طوائف منهم، واستحْلتها ألسنتهم، وأصابهم ما أصاب غيرهم من الاختلاف، ولست بيائس أن يدفع الله عز وجل شر هذه البدعة إلى أن يصيروا إخواناً دون أسلافكم؛ فإنه لم يدخر عنهم خيراً خبئ لكم دونهم لفضل عندكم، وهم أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم الذين اختارهم الله عز وجل وبعثه فيهم، فوصفه بهم فقال عز وجل: "مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ" [الفتح:29].
وقيل لـسفيان بن عيينة : الرجل يقول: مؤمن أنت؟ فقال: قل: ما أشك في إيماني، وسؤالك إياي بدعة. يعني: لا أشك لا في تصديقي بالقلب، ولا في نطقي باللسان. فهذا أيضاً نوع من محاصرة السائل بحيث يفوت عليه مقصده، ثم قال: وتقول: ما أدري أنا عند الله عز وجل شقي أم سعيد أي: يمكن أن تجيب هذا السائل الذي يسألك: أأنت مؤمن؟ -فتقول له: ما أدري أنا عند الله عز وجل شقي أم سعيد، أمقبول عملي أم لا.
وعن ابن خليفة قال: قال لي إبراهيم : إذا قيل لك: أمؤمن أنت؟ فقل: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله. فجمعت هنا بين التصديق بالقلب، وبين النطق باللسان، وفوّتَّ عليه الكلام في الجزء الثالث؛ ولذلك لم تحتج هنا إلى الاستثناء.
وعن محمد بن سيرين قال: إذا قيل لك: أمؤمن أنت؟ فقل: "آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ" [البقرة:136] إلى آخر الآية. الشاهد: أنك تتلو عليه هذه الآية؛ لأن الله أمرك بأن تقولها... فحينما تقول: آمنت بالله، وبما جاء من عند الله، أفضل من أن تقول: أنا مؤمن. وتسكت، أو تقول: أنا مؤمن إن شاء الله، وتعني أنك إن شاء الله لست شاكاً في إيمانك.
=====================================
قضايا الإيمان والكفر (22)
تفاضل أهل الإيمان
يقول الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله:
وأهله فيه على تفاضل هل ** أنت كالأملاك أو كالرسل
... المرجئة يقولون: إيماننا مثل إيمان الملائكة والرسل؛ لأن الإيمان عندهم مجرد المعرفة بلا عمل. فالناس ليسوا سواءً في الإيمان، بل بعضهم يكون أفضل من بعض في الإيمان، كما ذكر الله تبارك وتعالى أقسامهم التي قد قسمهم عليها بمقتضى حكمته، فقال تعالى: هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ [آل عمران:163].......
آيات وأحاديث في الرجاء
يقول عز وجل: "ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ" [فاطر:32] ... يعني: أن أمة محمد عليه الصلاة والسلام هم: ((الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا))، ثم ذكر أقسام هؤلاء المصطفين الأخيار فقال: (( فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ )) بالمعاصي، فدل على أن العاصي لا يخرج من الإسلام، ولا يخرج من الإيمان بمجرد المعصية، بدليل ذكرهم ضمن من (اصطفاهم) الله تبارك وتعالى: (( وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ))، أي: اقتصروا على التزام الواجبات واجتناب المحرمات، فلم يزيدوا على ذلك، ولم ينقصوا منه وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا؛ فبعض العلماء قال: إن هذه أرجى آية في القرآن لأهل المعاصي،...
كذلك من الآيات التي يقال عنها: إنها أرجى آية في القرآن قوله تعالى: "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" [الزمر:53]. وكذا قوله تعالى في سورة الشورى: "وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِير"ٍ [الشورى:30]، فبين أنك إما أن تؤاخذ بالذنوب في الدنيا، وإما أن الله يعفو عنك، وما تبقى من ذلك سيعفو الله تبارك وتعالى عنه. وكذا قوله: "إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء" [النساء:48]....
ومثل هذا أيضاً: بعض الآثار التي فيها أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يرض أن أحداً من أمته يبقى في النار....، فكما أن الله عز وجل في جانب الرحمة يعفو عمن يستحق ذلك، ويعلمه الله أهلاً لذلك، فكذلك من كماله أن يكون عادلاً في من عصى أمره، وعاند شريعته، وخرج عن طاعته، فمن عصى الله والرسول يحب أن يعاقب، لكن على كل حال قد يشرح هذا الأمر حديث قدسي في صحيح مسلم : أن النبي عليه الصلاة والسلام تلا دعاء إبراهيم لقومه، ودعاء عيسى، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (يا رب! أمتي أمتي، وبكى)، أي: أنه لما وجد إبرهيم دعا لقومه وعيسى دعا، قال: (يا رب! أمتي أمتي)، فأرسل الله عز وجل إليه ملكاً فقال: (قل له: يا محمد! ما يبكيك؟ فقال: يا رب أمتي أمتي)... فأوحى الله إليه على لسان جبريل عليه الصلاة والسلام: (قل له: إنا سنرضيك في أمتك ولن نسوءك)، وهذا أيضاً مما يدخل ضمناً في معنى قوله: "وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى" [الضحى:5]، يعني: يرضيك بما يشرح صدرك بالنسبة لمصير أمتك في الآخرة.
ومن آيات الرجاء قوله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ" [البروج:10]، ...، فأي رحمة أعظم من ذلك؟!
كذلك في سورة الفرقان بعد أن ذكر الله عز وجل جملة من كبائر الذنوب قال: "إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا" [الفرقان:70] إلى آخر الآية. كذلك قال الله: "أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ" [النور:22]...
والرسل أنفسهم فيما بينهم متفاضلون، يقول الله عز وجل: "تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ" [البقرة:253].
تفاوت المؤمنين في درجات الجنة ونعيمها
أخبر الله عز وجل عن المؤمنين أنهم متفاوتون في الإيمان في باب التكليف، وكذلك جعل الجنة التي هي دار الثواب متفاوتة الدرجات مع كون كل منهم فيها، فالجميع في الجنة، ولكن بتفاوت مراتب إيمانهم يتفاضلون، وما كان هذا التفاضل في الجزاء في الجنة إلا بسبب تفاضلهم في إيمانهم في الدنيا، قال عز وجل في سورة الرحمن: "وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ... ذَوَاتَا أَفْنَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ" [الرحمن:49-55]، إلى أن قال تبارك وتعالى: "وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ" [الرحمن:62]، فدل على التفاوت في الجزاء في الآخرة. وكذا في سورة الواقعة أخبر بصفة الجنة التي يدخلها السابقون، وأنها أعظم وأعلى من صفات الجنة التي يدخلها أصحاب اليمين، وكذلك في سورة المطففين ...
وقال صلى الله عليه وسلم: (جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنات عدن). وقال الله تعالى: "هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ" [آل عمران:163]، وأهل الجنة متفاوتون في الدرجات حتى إنهم ليتراءون أهل عليين، يعني: ويرون غرفهم من فوقهم كما يرى الكوكب في الأفق الشرقي أو الغربي. هذه حقيقة سوف يدركها كل من امتن الله عز وجل عليه بدخول الجنة، نسأل الله أن يجعلنا منهم....
أيضاً: عصاة الموحدين في النار تمسهم النار بقدر ذنوبهم، والسير على الصراط أيضاً يكون بقدر قوة الإيمان، وهذا فيه تفاوت، فهناك من يمشي بسرعة البرق، ومن هو بسرعة الريح، ومن يحبو، ومن يقع وهكذا، فهذا كله بمقدار الذنوب.
=========================
فضيلة الشيخ عادل نصر يكتب :
ضوابط التكفير في ضوء منهج أهل السنة والجماعة
------------------------------------------------------
ضوابط التكفير في ضوء منهج أهل السنة والجماعة (1)
إن من أعظم الفتن وأشد الانحرافات في زماننا فتنة التكفير ونعنى بذلك تكفير المسلم بغير حق والحكم عليه بانخرام عقد الإسلام الذي عقد له بيقين بدون مراعاة لضوابط الشرع الحنيف والتي جاءت في هذا الباب شديدة وصارمة ولما لا ؟ والحكم على المسلم بالتكفير يعنى زوال العصمة عنه في الدنيا ويترتب على ذلك حل الدم والمال وفى الآخرة الخلود في النيران فالكفر محبط للعمل مزيل للعصمة موجب للخلود في النيران يقول شيخ الإسلام ابن تيمية مبينا خطورة الكفر وما يترتب عليه من آثار (أعلم أن مسائل التكفير والتفسيق هي من مسائل الأسماء والإحكام التي تتعلق بالوعد والوعيد في الدار الآخرة وتتعلق بها الموالاة والمعاداة والقتل والعصمة وغير ذلك في الدنيا, فان الله سبحانه اوجب الجنة للمؤمنين وحرم الجنة على الكافرين وهذه من الإحكام الكلية في كل وقت ومكان )ولما كان الأمر بهذه الخطورة وكانت هذه الفتنة من اخطر الانحرافات التي تهدد المشروع الإسلامي وتعرقل سيره وتمزق أوصال المتجمع المسلم رأينا أنه من الواجب إن نبين ضوابط أهل السنة والجماعة في هذا الباب نصحا لإخواننا إذا (الدين النصيحة ) واعذارآ لله عز وجل وتبصيرا للشباب المسلم حتى لا يقع فريسة في شراك أهل البدع لان الفرق الضالة في هذا الباب قد عادت من جديد حيث نبتت نوابت الخوارج في ديار الإسلام ممثلة في جماعات الغلو في التكفير التي تنوعت مسالكها واتفقت نهايتها (تكفير المسلم بغير حق ) فمنها من كفر بكل ذنب محييا بذلك فكر الخوارج تماما بتمام ومنها من لم يكفر بكل ذنب بل بالشرك الأكبر ونحوه بيد انه لم يراع ضوابط التكفير عند أهل السنة والجماعة وكلا المسلكين انحراف عن سواء السبيل وفى المقابل نجد من تساهل في هذا الباب زاعماً أن من قال ( لا اله الا الله ) فانه لا يخرج من الإسلام ولو بالكفر البواح بل تجاوز الأمر هذا الحد راح بعضهم يصحح ما عليه أهل الكفر فسمعنا من يردد عبارات كفريه كقول بعضهم واصفاً أهل الكتاب ( المؤمنون من هل الأديان الثلاثة ) وكذا من يصف اليهود والنصارى بقوله ( فان كنا نحن مؤمنين من وجه فهم مؤمنون من وجه أخر ) ومعلوم من دين الله عز وجل إن كل هذه الأقوال والمذاهب الردية هي منكر من القول وباطل وزور ويتعين إنكاره ورده وسنبذل ما في وسعنا متطفلين على موائد الأكابر من أئمة أهل السنة والجماعة سلفا وخلفا عيالا على أقوالهم في هذا الباب مستعينين بالله عز وجل على توضيح منهج أهل السنة والجماعة في مسائل التكفير حتى تتضح معالمه وليكون المسلم على بصيرة من أمره كما قال تعالى (ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة )وقبل الولوج في الموضوع لابد من التعرف على نشأ التكفير قديما وحديثا ,لقد ظهرت هذه البدعة قديما على يد الخوارج الذين كفروا الأمة بالمعاصي حيث حكموا على مرتكب الكبيرة بالكفر والخلود في النار مخالفين بذلك أدلة الكتاب والسنة الصريحة في إن مرتكب الكبيرة لا يكفر إلا إذا استحل الذنب فناظرهم ابن عباس فأقام عليهم الحجة وفند شبهتاهم بأنوار من الكتاب والسنة فأقام عليهم الحجة باللسان وقاتلهم أمير المؤمنين على بن أبى طالب بالسيف والسنان , إما في العصر الحديث فقد انطلقت شرارة التكفير من سجون عبد الناصر على يد شاب كان ينتمي لجماعة الإخوان وهو شكري مصطفى الذي كان من شباب الإخوان الذين تم اعتقالهم سنة 1965 وكان طالبا بكلية الزراعة جامعة أسيوط وعمره آنذاك لا يتجاوز الثالثة والعشرين وكان تحصيله العلمي محدودا أو لا يكاد يذكر لاسيما وان جماعة الإخوان لا تهتم كثيرا بتعليم إفرادها ولا تربيتهم على معتقد أهل السنة بالتفصيل وتحت وطأة سياط التعذيب الذي لا طاقة للبشر به نبتت أفكار التكفير واستحكمت الشبهات عند أولئك الشباب فكانت الانطلاقة لإحياء فكر الخوارج في عصرنا الحديث فراح أولئك الشباب يكفرون كل من حولهم وانتشرت أفكارهم انتشار النار في الهشيم وكانت هذه بداية نشأة جماعة التكفير والهجرة التي أحييت فكر الخوارج حيث كفرت مرتكب الكبيرة وسفكت دماء العلماء حيث قتلت الشيخ محمد حسين الذهبي وإذا كان للاضطهاد والتعذيب دور كبير في نشأة فكر التفكير فان مما لا شك فيه إن جماعة الإخوان عليها كفل كبير في ذلك حيث تهمل الجماعة تدريس معتقد أهل السنة والجماعة بل أنها تقلل من شأن ذلك وتصفه بالترف العقلي 0
وليس أدل على ذلك من خروج لون تكفيري أخر من رحم نفس الجماعة على يد بعض تلاميذ سيد قطب وهو عبد المجيد الشاذلي صاحب كتاب (حد الإسلام وحقيقة الإيمان ) وهو الكتاب الذي يعتبر دستور جماعة التوقف والتبيين ولم تقف الجماعات التكفيرية عند هذا الحد الذي ذكرنا بل كثر عددها وتباينت طرائقها كما هو شأن أهل البدع والأهواء فيختلفون في الكتاب وعلى الكتاب كما قال إمام أهل السنة والجماعة الإمام احمد بن حنبل عليه رحمة الله
فيكفر بعضهم بعض ويلعن بعضهم بعض ومعلوم إن هذه سمت أهل البدع والأهواء كما وضح ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية بخلاف أهل السنة والجماعة الذين يعذر بعضهم بعض ويخطأ بعضهم بعض
............................................................................................................................
ضوابط التكفير فى ضوء منهج أهل السنة والجماعة
(2)
إن مما يلزم بيانه ونحن نتكلم عن ظاهرة التكفير فى ضوء منهج أهل السنة والجماعة إن نذكر أهم الأصول عند أهل السنة فى هذا الباب والتي تمثل معالم منهجهم وبها يفارقون أهل البدع والضلال من الفرق الزائغة التي انحرفت عن سبل السبيل واهم هذه المعالم هي
1-وسطية أهل السنة والجماعة بين الخوارج والمرجئة فى مسائلة التكفير
2-التكفير حكم شرعي وحق لله تعالى
3-التكفير مبناه على التثبت والتحري لأعلى الاندفاع والتجرى
4- أهل السنة يفرقون بين إحكام الدنيا وإحكام الآخرة
5- أهل السنة والجماعة يفرقون بين كفر العموم وكفر التعيين
6- أهل السنة والجماعة لا يكفرون بالمآلات ولا لوازم القول إذا المقاصد معتبره
بعد إن ذكرنا هذه المعالم إجمالا نفصل القول فيها حتى يتضح المقصود بعون الرب المعبود فنقول
أولا- وسطية أهل السنة والجماعة بين الخوارج والمرجئة فى مسائلة التكفير \ومن أهم خصائص أهل السنة فى قضية التكفير أنهم وسط بين الخوارج والمرجئة كما هم وسط بينهم فى مسائل الإيمان فهم يخالفون الخوارج فلا يكفرون بكل ذنب بل لابد إن يكون الذنب من الكفر الأكبر المزيل لأصل الإيمان ولذا اتفقت كلمتهم على إن مرتكب الكبيرة لا يكفر حتى يستحل 0
يقول ابن القيم رحمة الله عليه ( وهذا التفصيل هو قول الصحابة الذين هم اعلم الأمة بكتاب الله وبالإسلام وبالكفر ولوازمهما فلا تتلقى هذه المسائل إلا عنهم فان المتأخرين لم يفهموا مرادهم فانقسموا فريقين فريق أخرجوا من الملة وقضوا على أصحابهم بالخلود فى النار ,وفريقا جعلوهم مؤمنين كاملي الإيمان فهؤلاء غلوا وهؤلاء جفوا 0
وهدى الله أهل السنة للطريقة المثلى والقول الوسط الذي هو فى المذاهب كالإسلام فى الملل فها هنا كفر دون كفر ونفاق دون نفاق وشرك دون شرك وفسوق دون فسوف وظلم دون ظلم )
فالمعاصي عند أهل السنة والجماعة من شعب الكفر وفروعه لا تنقل عن الملة ولا تخرج من الإسلام إلا إذا استحلها فاعلها ولكنها تنقص الإيمان وتعرض صاحبها للعقوبة فلا يزيل الإيمان عند أهل السنة والجماعة إلا الكفر الأكبر أو الشرك الأكبر أو غير ذلك من النواقص 0
وكما خالف أهل السنة والجماعة الخوارج خالفوا كذلك المرجئة الذين حصروا الكفر فى مجرد التكذيب والجحود كما جعلوا الإيمان مجرد التصديق وهذا مذهب باطل مخالف لأدلة الكتاب والسنة والتي دلت على أن الكفر غير محصور فى التكذيب بل منها كفر أعراض وإباء واستكبار وغير ذلك مما يختص بالتكذيب بل تكون مع التصديق فنواقض الإيمان عند أهل السنة والجماعة ليست محصورة فى النواقض القلبية كيف وقد انعقد الاجتماع على عدد من المكفرات القولبة والعملية وكثيرا منها لا يتضمن التكذيب كما هو معلوم
ثانيا-التكفير حكم شرعي وحق لله تعالى
إن التكفير حكم من الإحكام الشرعية التي لا مدخل لرأى فيها أو هوى بل هو سمعي محض فالمؤمن من حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم له بالإيمان وكذا الكافر من كفره الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فليس لأحد إن يطلقه على احد بمجرد الظن أو الهوى كما انه لا يحكم بإسلام أو إيمان لمن كفر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله ( فان الكفر والفسق إحكام شرعية ليس ذلك من الإحكام التي يستقل بها العقل ,فالكافر من جعله الله ورسوله كافرا , والفاسق من جعله الله ورسوله فاسقا ,كما إن المؤمن والمسلم من جعله الله ورسوله مؤمنا ومسلما ,والعدل من جعله الله ورسوله عدلا, ومعصوم الدم من جعله الله ورسوله معصوم الدم ,والسعيد فى الآخرة من اخبره الله ورسوله انه سعيد فى الآخرة ,والشقي فيها من اخبره الله ورسوله انه شقي فيها –إلى إن قال –فهذه المسائل كلها ثابتة بالشرع )
ويقول ابن الوزير( إن التكفير سمعي محض لا مدخل للعقل فيه وان الدليل على الكفر لا يكون إلا سمعيا قطعيا ولا نزاع فى ذلك )العواصم من القواصم
-ولما كان التكفير حكما شرعيا وحقا الله تعالى كان لزما على العبد النقي الذي يخشى ربه ويخاف يوم الحساب ألا يعاقب به فليس له إن يكفر من كفره فنحن مطالبون إن نمتثل شرع الله عز و جل مع من لايمتثله وان نتقى الله فيمن لا يتقى الله فينا وقد كان هذا بفضل الله تعالى صنيع أهل السنة مع مخالفيهم عبر العصور يقول شيخ الإسلام (فلهذا كان أهل العلم والسنة لا يكفرون من خالفهم وان كان ذلك المخالف يكفرهم لان الكفر حكم شرعي فليس للإنسان إن يعاقب بمثله كمن كذب عليك وزنى بأهلك ليس لك إن تكذب عليه وتزني بأهله لان الكذب والزنا حرام لحق الله تعالى وكذلك التكفير حق لله تعالى فلا يكفر إلا من كفره الله ورسوله ) فلما سلم أهل السنة والجماعة لنصوص الوحيين سلموا من البدع ولما اعتصموا بالله عز و جل عصموا من الضلال والزيغ ولله در الإمام الطحاوى حيث يقول (فانه ما سلم فى دينه إلا من سلم لله عز و جل ولرسوله ورد علم ما اشتبه عليه إلى عالمه ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام )
……………………………………………………………………………………………………………………………
ضوابط التكفير فى ضوء منهج أهل السنة والجماعة
(3)
ونواصل فى هذه المقالة بيان معالم أهل السنة والجماعة فى هذا الباب فتقول بالله التوفيق
3- التكفير مبناه على التثبت والتحري لا على الاندفاع والتجرى : إن الحكم على ما ثبت إسلامه بيقين بالخروج من الإسلام والدخول فى دائرة الكفر بغير حق ولا بينة أوضح من شمس النهار جناية عظيمة ,وجريمة شنيعة لا يقدم عليها إلا مخاطر لا يقدر الأمور قدرها ولا يعد ليوم الحساب عدته ,اى بغى وعدوان أعظم من إن تحكم على مسلم بانخرام عقد إسلامه فتذهب عنه عصمة الدم والمال هذا فى الدنيا مع الحكم عليه بالخلود فى النيران فى الآخرة ,ولخطورة ما يترتب على الكفر من أحكام أتت أدلة الشرع تحذر أشد التحذير من ولوج هذا الباب والإقدام على هذه المسائلة إلا لمن تأهل لذلك برسوخ القدم فى العلم الشرعي وبدليل أوضح من شمس النهار فالأمر فى التكفير مبنى على التثبت والتحري لا على الاندفاع والتجرى ولان يخطى الإنسان فى العفو خير من إن يخطى فى العقوبة وهناك بعض النصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم فى ذلك ففي الصحيحين عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال أيما رجلا قال لاخية :يا كافر :فقد باء بها احدهما إن كان كما قال إلا رجعت عليه ) وعن أبى قلابة إن ثابت بن الضحاك وكان من أصحاب الشجرة حدثه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:من حلف على ملة غير الإسلام فهو كما قال وليس على ابن ادم نذر فيما لا يملك من قتل نفسه نشئ فى الدنيا عذب به يوم القيامة ومن لعن مؤمنا فهو كقتله ومن قذف مؤمنا فهو كقتله ) وعن أبى ذر انه سمع النبي صلى الله عليه وسلم :لا يرمى رجل رجلا بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك) قال الحافظ فى الفتح (قال الغزالي فى كتاب" التفرقة بين الإيمان والزندقة" والذي ينبغي الاحتراز عن التكفير ما وجد إليه سبيلا فان استباحة دماء المصلين المقرين بالتوحيد خطأ والخطأ فى ترك إلف كافر فى الحياة أهون من الخطأ فى سفك دم لمسلم واحد ) ولقد التزم أهل السنة والجماعة بموجب هذه النصوص فوضعوا الضوابط الصارمة فى مسالة التكفير وبنوها على الاحتياط حتى قال بعضهم "أدخل إلف فى الإسلام عظيم وإخراج واحد من الإسلام أعظم" اى لان يخطى الإنسان ويحكم بالإسلام لألف شخص ممن ليسوا كذلك وبالرغم إن ذلك عظيم إلا انه أهون من يخرج مسمآ واحدا من الإسلام بغير حق ولذا كان دأب أهل العلم التثبت الشديد فى الحكم بالكفر على المسلم فيتوقفون فيه لأدنى شبهة حتى قال الإمام مالك (لو وجدت فى الرجل تسعا وتسعين بابا يكفر منها وبابا واحدا لا يكفر منه لأخذت بذلك الباب ) ويقول الشوكانى (إن الحكم على الرجل المسلم بخروجه من دين الإسلام ودخوله فى الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الأخر إن يقدم عليه إلا ببرهان أوضح من شمس النهار فانه قد ثبت فى الأحاديث الصحيحة المروية من طريق جماعة من الصحابة إن من قال لاخية يا كافر فقد باء بها احدهما هكذا فى الصحيح وفى لفظ أخر فى الصحيحين غيرهما عن أبى ذر انه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من دعا رجلا بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا جار عليه ) اى رجع ففي هذه الأحاديث وما ورد موردها أعظم زجرا واكبر واعظا عن التسرع فى التكفير وقد قال الله عز و جل "ولكن من شرح بالكفر صدرا "فلابد من شرح الصدر بالكفر وطمأنينة القلب به وسكون النفس إليها فلا اعتبار بما يقع من طوارق عقائد الشر لاسيما بمخالفتها لطريق الإسلام ولا اعتبار بصدور فعل كفر لم يرد فاعله الخروج من الإسلام إلى ملة الكفر ولا اعتبار بلفظ تلفظ به المسلم يدل على الكفر وهو لا يعتقد معناه)السيل الجرار ص4|578
لولا ضيق المقام لأوردنا من نصوص الأئمة الإعلام التي تبين مدى تثبت أهل السنة والجماعة فى هذا الباب وان كان ما ذكرناه كافيا لمن وفقه الله وشرح صدره وكان حريصا على إلا يلقى ربه وفى رقبته مظلمة لمسلم
………………………………………………………………………………………………………………………………
ضوابط التفكير فى ضوء منهج أهل السنة والجماعة
(4)
ولازال الحديث موصولا عن المعالم المنهجية لأهل السنة والجماعة فى قضية التكفير وكلامنا هذا الأسبوع عن أهل السنة يفرقون بين أحكام الدنيا وأحكام الآخرة : من المعالم المهمة لمنهج أهل السنة والجماعة والسمات الرئيسة لهم فى هذا الباب أنهم يفرقون بين أحكام الدنيا وأحكام الآخرة , فالأحكام فى الدنيا تجرى على الظواهر فمن أقر بالشهادتين وأظهر الإسلام فهو المسلم له ما للمسلمين وعليه ما عليهم ,وتجرى عليه أحكام الإسلام من نكاح ,وأرث ,وعتق ,وعصمة للدم والمال ,وغير ذلك يستوي فى هذا من قاله من قلبه ومن قالها نفاقا وطلبآ للدنيا فلم نؤمر إن نشق عن قلوب الناس فلنا الظاهر ونكل السرائر لله تعالى أما فى الآخرة فلا ينفع ظاهر لا باطن له ولذا كان المنافقون فى الدرك الأسفل من النار مع أنهم عوملوا فى الدنيا معاملة المسلمين فلقد ورث عبدالله بن عبدالله بن أبى بن سلول أباه مع انه رأس المنافقين .
يقول شيخ الإسلام رحمه الله يجب إن يفرق بين أحكام المؤمنين الظاهرة التي يحكم فيها الناس فى الدنيا وبين حكمهم فى الآخرة بالثواب والعقاب فالمؤمن المستحق للجنة لابد إن يكون مؤمنآ فى الباطن باتفاق جميع أهل القبلة ).
ولأهل السنة أدلتهم من الكتاب والسنة والتي تؤيد هذه القاعدة فمنها : 1- قوله تعالى(يا أيها الذين امنوا إذا ضربتم فى سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمنآ تبتغون عرض الحياة الدنيا ),
2-قوله صلى الله عليه وسلم أمرت إن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا اله الا الله وان محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دمائهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله ),والشاهد من الحديث قوله صلى الله عليه وسلم( وحسابهم على الله) ,قال الإمام البغوى وفى الحديث دليل على إن أمور الناس فى معاملة بعضهم بعضا إنما تجرى على الظاهر من أحوالهم دون باطنها وان من أظهر شعار الدين أجري عليه حكمه، ولم يكشف عن باطن أمره، ولو وجد مختون فيما بين قتلى غلف، عزل عنهم في المدفن، ولو وجد لقيط في بلد المسلمين حكم بإسلامه ) شرح السنة للبغوى 1\70, وقال ابن رجب: (وأما في الآخرة فحسابه على الله عز وجل، فإن كان صادقاً أدخله الله بذلك الجنة، و إن كان كاذباً فإنه من جملة المنافقين في الدرك الأسفل من النار(,وقال الحافظ في الفتح: ( وحسابهم على الله أي أمر سرائرهم.. وفيه دليل على قبول الأعمال الظاهرة والحكم بما يقتضيه الظاهر(.
-3-واستدلوا أيضاً بقصة أسامة رضي الله عنه المشهورة قال: )بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الى الحرقة من جهينة قال فصبحنا القوم فهزمناهم . قال ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم قال فلما غشيناه قال لا اله الا الله قال : فكف عنه الانصارى فطعنته برمحي حتى قتلته فلما قدمنا بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فقال لي ي: يا أسامة أقتلته بعدما قال لا اله الا الله قال : قلت يا رسول الله أنما كان متعوذا . قال أقتلته بعدما قال لا اله إلا الله ؟ قال فما زال يكررها على حتى تمنيت أنى لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم . (رواه البخاري فى صحيحة.
قال النووي – رحمه الله-: (وقوله صلى الله عليه وسلم: ((أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا))؟ فيه دليل للقاعدة المعروفة فى الفقه والأصول أن الإحكام يعمل فيه بالظواهر والله يتولى السرائر .
ونود التنبيه هنا على إن هناك شيئين يستثنيان من هذه القاعدة هما 1- وقوع الكفر من المسلم الذي ثبت له عقد الإسلام بيقين فانه لا ينسحب عليه الوصف إلا بعد ثبوت الشروط وانتفاء الموانع وذلك لورود أدلة الشريعة الموجبة للاحتياط فى شأن المعين كما سيأتي تفصيله .
2- ما وقع من خلاف بين أهل الإعلام فى قبول توبة الزنديق حيث قال بقبول توبته الشافعي وراوية عن أحمد وحكاه الخطابي عن الأكثرين وذهب إلى عدم قبولها مالك وأبو حنيفة وأحمد فى الرواية الأخرى ورجحه أبن تيمية وابن القيم , لاشك انك أيها القاري الكريم تلحظ معي دقة منهج أهل السنة وعظيم تحرى أئمته الأكابر فتقدر ما قاله سلفنا الصالح (إن من نعمة الله على الشاب إذا نسك أن يوفقه الله إلى صاحب سنة يحمله عليها
............................................................................................................................
ضوابط التكفير فى ضوء منهج أهل السنة والجماعة
(5)
ولازال الحديث موصولا عن المعالم المنهجية لأهل السنة والجماعة فى قضية التكفير وكلامنا هذا الأسبوع عن ,
5- أهل السنة والجماعة يفرقون بين كفر العموم ،وكفر التعيين :من أهم خصائص أهل السنة والجماعة فى باب التكفير بل والوعيد عمومآ أنهم يفرقون بين العموم والتعيين فيطلقون الكفر على العموم فيقولون مثلا بأن من أنكر معلومآ من الدين بالضرورة كفر أو من دعا غير الله عز و جل فقد أشرك ونحو ذلك ولكن الأمر فى المعين عندهم على خلاف هذا فلا يكفرونه مع وقوع الكفر منه حتى تثبت فى حقه الشروط وتنتفي الموانع فيفرقون بين الفعل والفاعل فالفعل يكون كفرآ لكن لا يكفر صاحبه حتى تقام عليه الحجة الرسالية .
ولقد جاءت عبارات أهل العلم من أهل السنة والجماعة يؤيد بعضها بعضآ فى هذا الباب – نعنى التفريق بين الإطلاق والتعيين – وسننقل بعضآ منها حتى يتجلى الحق لكل ذي عينين يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله(قد يكون الفعل أو المقالة كفرآ ويطلق القول بتكفير من قال تلك المقالة أو فعل ذلك الفعل ويقال :من قال كذا فهو كافر أو من فعل ذلك فهو كافر لكن الشخص المعين الذي قال ذلك القول أو فعل ذلك الفعل لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها وهذا مطرد فى نصوص الوعيد عند أهل السنة والجماعة فلا يشهد على معين من أهل القبلة بأنة من أهل النار لجواز أن لا يلحقه الوعيد لفوات شرط أو لثبوت مانع )"مجموع الفتاوى25\165" ويقول أيضا رحمه الله (إذا عرف هذا فتكفير المعين من هؤلاء الجهال وأمثالهم –بحيث يحكم عليه بأنه من الكفار – لا يجوز الإقدام عليه إلا بعد إن تقوم على أحدهم الحجة الرسالية التي يتبين بها أنهم مخالفون للرسل وان كانت هذه المقالة لا ريب أنها كفر.
وهكذا الكلام فى تكفير جميع المعينين مع أن بعض هذه البدعة أشد من بعض وبعض المبتدعة يكون فيه من الإيمان ما ليس فى بعض فليس لأحد أن يكفر أحدا من المسلمين وان أخطأ وغلط حتى تقام الحجة وتبين له المحجة.ومن ثبت إيمانه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة )}مجموع الفتاوى 12\500{،وقال رحمه الله (أنى من أعظم الناس نهيا عن أن ينسب معين إلى تكفير أو تبديع أو تفسق أو معصية إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافرا تارة وفاسقا أخرى وعاصيا أخرى )}المصدر السابق 3\299{
ويقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله :[وهذا كلامه فى المسألة –أي كلام ابن تيمية- فى كل موضع وقفنا عليه من كلامه لا يذكر عدم تكفير المعين إلا ويصله بما يزيل الإشكال أن المراد بالتوقف عن تكفيره قبل أن تبلغه الحجة وأما إذا بلغته حكم عليه بما تقتضيه تلك المسألة من تكفير أو تفسيق أو معصية ](مفيد المستفيد فى كفر تارك التوحيد 15\16) ولقد التزم سلفنا الصالح بهذه الأصول والضوابط العظيمة حيث فرقوا بين كفر العموم وكفر المعين . وأسوق إليك هذين النموذجيين من التطبيق العملي لتعلم مدى احتياط الأئمة الأكابر فى تكفير المعين :-
النموذج الأول : وهو موقف الإمام احمد بن حنبل – إمام أهل السنة والجماعة- من أعيان الجهمية الذين أذوه وحبسوه ودعوا الناس إلى بدعتهم بل حملوهم عليها حملآ حتى عاقبوا كل من يخالف قولهم وكفروه ومع هذا فالذين كانوا من ولاة الأمور يقولون بقول الجهمية إن القرآن مخلوق وان الله لا يرى فى الآخرة وغير ذلك ويدعون الناس إلى ذلك ويمتحنوهم ويعاقبونهم وإذا لم يجيبوهم ويكفرون من لم يجبهم حتى أنهم كانوا إذا امسكوا الأسير لم يطلقوه حتى يقر بقول الجهمية وان القران مخلوق وغير ذلك وليولون متوليا ولا يعطون رزقا من بيت المال إلا لمن يقول ذلك ومع هذا فالإمام أحمد ترحم عليهم وأستغفر لهم لعلمه بأنهم لم يبين لهم أنهم مكذبون للرسول صلى الله عليه وسلم ولا جاحدون لما جاء به ولكن تأولوا فأخطئوا وقلدوا من قال لهم ذلك ، (مجموع الفتاوى 23\349).
أما النموذج الثاني : وهو موقف شيخ الإسلام مع مخالفيه من الجهمية فيقول )ولهذا كنت أقول للجهمية من الحلولية والنفاة الذين نفوا أن الله تعالى فوق العرش -لما وقعت محنتهم-"انا لو وافقتكم كنت كافرا لأني اعلم إن قولكم كفر، وانتم عندي لا تكفرون لأنكم جهال"...وكان هذا خطابا لعلمائهم وقضاتهم وشيوخهم وأمرائهم(.[الرد على البكرى46 ]
فلما نقلناه من نصوص أهل العلم ومواقفهم العملية كاف لمن نور الله بصيرته وأوضح الدلالة على إن أهل السنة والجماعة يفرقون بين كفر العموم وكفر المعين وان المعين لا يكفر حتى تثبت فى حقه الشروط وتنتفي الموانع ،وإذا تبين لك الحق علمت مدى زيغ أهل البدع والأهواء حيث خلطوا بين كفر العموم والتعيين لاسيما فى النقل عن الائمة ولله در القائل
وكم غائب قولا صحيحا
وأفته من الفهم السقيم
............................................................................................................................
ضوابط التكفير فى ضوء منهج أهل السنة والجماعة
(6)
ذكرنا فى المقالات السابقة المعالم الرئيسية لمنهج أهل السنة والجماعة فى مسألة التكفير واليوم بإذن الله نبدأ فى توضيح ضوابط أهل السنة فى تكفير المعين إذ من أصول أهل السنة فى هذا الباب التفريق بين كفر العموم وكفر المعين .
فالمعين لا يكفر حتى يتحقق فيه أمران :أولهما أن يكون الذي أرتكبه كفرآ أكبر مخرجا من الملة وليس كفرآ أصغر فهذا ينقص الإيمان ولا يزيله .
والثاني أن تستوفى فى حقه الشروط وتنتفي الموانع كما سيأتي تفصيلها ونبدأ الآن فى تفصيل الأمرين فنقول وبالله التوفيق أما الأمر الأول وهو أن يكون ما ارتكبه كفرآ أكبر أو شركا أكبر إذ معلوم أن الكفر عند أهل السنة كفران ،والشرك شركان،والظلم ظلمان،والفسق فسقان، أكبر وأصغر فالأكبر من كل ما سبق هو الذي يزيل أصل الإيمان ويخرج من الملة أما الأصغر فهو ينقص الإيمان ولا يزيله إذ من المعلوم أن أهل السنة والجماعة لا يكفرون مرتكب الكبيرة إلا إذا استحلها ويقول أبو جعفر الطحاوى:"ولا نكفر مسلما بذنب ما لم يستحله"(العقيدة الطحاوية) ،
ويقول أبو عبيدة القاسم بن سلام فى بيان موقف أهل السنة من مرتكب الكبيرة "وان الذي عندنا فى هذا الباب كله أن المعاصي والذنوب لا تزيل ايمانآ ولا توجب كفرآ ولكنها إنما تنفى من الإيمان حقيقته وإخلاصه الذي نعت الله به أهله واشترطه عليهم فى مواضع من كتابه فقال تعالى {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ{
ويقول الشيخ حافظ بن احمد حكمي:-
والفاسق الملي ذو العصيان لم ينف عنه مطلق الإيمان
ولكن بقدر الفسق والمعاصي إيمانه مازال فى إنقاص .
ثم يقول فى شرح ذلك ( هذه المسائلة الثالثة وهى إن فاسق أهل القبلة لا ينفى عنه مطلق الإيمان لفسوقه ولا يوصف بالإيمان التام ولكن هو مؤمن ناقص الإيمان أو هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته فلا يعطى الاسم المطلق ولا يسلب مطلق الاسم والمراد بالفسق هنا هو الأصغر وهو عمل الذنوب الكبيرة التي سمها الله ورسوله فسقا وكفرا وظلما مع أجراء أحكام المؤمنين على عاملها فأن الله تعالى سمى الكاذب فاسقا فقال تعالى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ " ومع هذا لم يخرج ذلك الرجل الذي نزلت فيه الايه من الدين بالكلية ولم يمنع من جريان أحكام المؤمنين عليه )}معارج القبول2\384{، وقوله رحمه الله التي سماها الله ورسوله فسقآ وكفرآ وظلمآ يقصد الأصغر من كل ذلك، لان الكفر والفسق والظلم عند أهل السنة قسمان أصغر وأكبر كما أسلفنا .
ومن ثم يتضح لنا أن مقارفة الإثم وارتكاب الكبائر يؤثر فى الإيمان من حيث زيادته ونقصانه لأمن حيث بقائه وذهابه إلا إذا صاحب ذلك ما يقدح فى أصل الإيمان وهذا ما دلت عليه أدلة القرآن والسنة ومن أدلة القرآن
1-قول الله تعالى" فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ" فسمى الله عز و جل القاتل أخآ فى الدين لأهل المقتول ولو كانت الكبيرة تزيل أصل الإيمان لنفى عنه الإخوة الإيمانية وما وصفه بها إذ لا أخوة البتة بين مؤمن وكافر.
2-وقوله تعالى "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ" فخاطبهم بالإيمان مع أكلهم الربا وهو من كبائر الذنوب .
وكذلك آيات الحدود إذ لو كان الذنب كفرآ أكبر لطبق حد واحد وهو حد الردة
ومن أدلة السنة :-1- عن عبادة بن الصامت وكان شهد بدرا وهو أحد النقباء ليلة العقبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وحوله عصابة من أصحابه " بيعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولاتزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوا فى معروف فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب فى الدنيا فهو كفارة له ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا وعنه وأن شاء عاقبه ، فبايعناه على ذلك" وفى الحديث رد على الخوارج الذين يكفرون بالذنوب ورد على المعتزلة الذين يوجبون تعذيب الفاسق إذا مات بلا توبة ويتضح هذا من أخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأنه تحت المشيئة ولم يقل :لابد أن يعذبه وفى أشارة إلى الكف عن الشهادة لأحد بالجنة أو النار إلا من ورد النص فيه بعينه .
2- عن أنس ان النبي صلى الله عليه وسلم قال "يخرج من النار من قال لا اله الا الله وفى قلبه وزن شعيره من خير ويخرج من النار من قال لا اله الا الله وفى قلبه وزن بره من خير ويخرج من النار من قال ل االه الا الله وفى وزن ذرة من خير " والأدلة على ذلك كثيرة ومتواترة أكتفينا بذكر بعضها
=========================


هذا جهد علماء السلفية منذ أكثر من 35 سنة منذ نعومة أظفارهم حفظهم الله وسددهم لنصرة الدين شباب صغير ما زال فى الكلية أمام هؤلاء التماسيح من شيوخ الأزهر والأوقاف ويقنعونهم ويقولون لهم إن كانت هذه هى السلفية فنحن سلفيين
ندوة للرأى ( مناظرة بين مشايخ الدعوة السلفية وشيوخ الأزهر ) حلقة مسجلة من القناة الخامسة بالتلفزيون المصرى ومُذاعة سنة 1983م تتناول لقاء مفتوح بين مشايخ الدع...
YOUTUBE.COM
==============

سلسلة محاضرات فى العقيدة ومسائل الإيمان والكفر والمحاضرة الأولى درس السبت بمسجد الشريف لأبو عمار حماده موسى

دروس الإيمان والكفر بمسجد الشريف بمنشية أبو عامروالزقازيق وبنايوس وشرح كتاب عقيدة أهل السنة والجماعة فى مسألة الإيمان والكفر ورسالة الإيمان وجنس العمل والعذر بالجهل وضوابطه لكاتب هذه السطور نسأل الله أن ينفع به وأن يجعله خالص لوجهه والمحاضرة الأولى
============
https://www.youtube.com/watch?v=-RdPkHefLpY&feature=youtu.be


===================================================
================================================

تابع شرح كتاب عقيدة أهل السنة والجماعةفى مسألة الإيمان والكفر وكتاب الإيمان ومسألة جنس العمل والعذر بالجهل المحاضرة الثالثة أبو عمار حماده موسى

تابع شرح كتاب عقيدة أهل السنة والجماعةفى مسألة الإيمان والكفر وكتاب الإيمان ومسألة جنس العمل والمحاضرة الثالثة أبو عمار حماده موسى
===============
https://www.youtube.com/watch?v=CGAy5Tmgwtc
شرح كتاب عقيدة أهل السنة والجماعة فى مسائل الكفر والإيمان لفضيلة الدكتور ياسر برهامى ،،،وكتاب...
youtube.com
==========================
تابع شرح كتاب عقيدة أهل السنة والجماعة فى مسألة الإيمان والكفر وكتاب الإيمان ومسألة جنس العمل المحاضرةالرابعة بمسجد الشريف ودرس السبت أبو عمار حماده موسى
===============
https://www.youtube.com/watch?v=0T-Umcv7x5A
شرح كتاب عقيدة أهل السنة والجماعة فى مسائل الكفر والإيمان لفضيلة الدكتور ياسر برهامى ،،،وكتاب...
youtube.com
===============================


شرؤح كتاب عقيدة أهل السنة والجماعة وكتاب الإيمان وجنس العمل لأبو عمار حماده موسى ودرس السبت الإسبوعى بمسجد الشريف
YOUTUBE.COM

درس السبت وشرح عقيدة أهل السنة والجماعة فى مسائل الإيمان والكفر لأبو عمار حماده موسى
YOUTUBE.COM
====================


==================
==================


=================


================


أعجبني


تابع شرح كتاب عقيدة أهل السنة والجماعة فى مسائل الإيمان والكفر (16) والعذربالجهل أبو عمار حماده موسى والمحاضرة الساادسة عشر بمسجد...
YOUTUBE.COM
=============

سلسلة محاضرات الإيمان والكفر وعقيدة أهل السنة والجماعة فى هذه المسائل وشرح كتاب الشيخ الدكتور ياسر برهامى ( عقيدة أهل السنة والجماعة فى مسائل الإيمان والكفر ...
YOUTUBE.COM
==================

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق